strong>وائل عبد الفتاحالنظام في مصر ضغط على زر مغسلة الوحوش. اختار من مخزن الملفات «ضحية سمينة» وأطلق بها دورة من دورات غسل السمعة. صوت المغسلة اختلف بعدما تغير الواقع السياسي. قبل هذه الأيام كانت مغسلة الوحوش تعلو ولا يُعلى عليها، لكن الآن أصبحت لعبة مكشوفة إلى حد ما، رغم حفاظها على بعض أسرار جاذبيتها المتفجرة

حين تنهار جدران الحماية



فتحت مغسلة الوحوش وأُلقي فيها محمد إبراهيم سليمان.
مشهد انتظرته جماهير غفيرة لسنوات طويلة، لكنه حدث فقط عندما أراد النظام تشغيل المغسلة في لحظة يدافع فيها عن سمعته.
إبراهيم سليمان يقاوم حتى اللحظة الأخيرة. يعتمد على براعاته القديمة في الهرب من مصائد الوحوش. هو أشهر وزير إسكان، استمر أكثر من 12 سنة في منصبه مستمتعاً بإمبراطورية واسعة النفوذ على أراضي الدولة، استغل فيها منصبه لتكوين ثروات له ولعائلته.
وتحكي التحقيقات عن طرائف التوزيع الإمبراطوري، التي وصلت إلى منح ابنه (12 سنة) قطعة أرض كانت مساحتها ساعة التخصيص 1000 متر، لكنها مع القياس الأول تحولت إلى 2500 متر، وعند التسليم وصلت إلى 4000 متر، بعدما قرر الوزير الأب أن يضم 4 قطع في قطعة واحدة تحمل الرقم نفسه، لتكون من نصيب الابن.
الوزير عاش في محمية قوية طوال مهمته الوزارية، رغم نبش الصحافة الحزبية والمستقلة وأحياناً الحكومية، خلف ممارساته التي قالت تقارير الرقابة الإدارية إنها تتضمن رشوة 20 مليون جنيه (4 ملايين دولار تقريباً) و10 آلاف متر من الأراضي ضمها لممتلكات عائلته.
نبش الصحافة وتفتيشها في الملفات السوداء لم يصل إلى شيء، لأن سليمان «تحت الحماية». وبعدما أزيح من منصبه استمرت الحماية، ومنحه الرئيس وسام الجمهورية تقديراً لـ«جهوده».
لم يوضح قرار الوسام نوعية الجهود، وفسّرها الطيبون وقتها بأن «إبراهيم سليمان عميل سري لأجهزة الرئاسة». أدى مهمات وطنية جليلة لا تعلمها إلا الرئاسة، ولا يمكن الإفصاح عنها، ولهذا منح الوسام. ومن بعده مكافأة أخرى، هي رئاسة مجلس إدارة شركة الخدمات البترولية. المكافأة سخية (الراتب وحده يتجاوز 12 مليون جنيه، أي ما يفوق مليوني دولار)، وتجاوزت فيها الحكومة القانون، وثبت بعد ذلك من فتوى مجلس الدولة ببطلان التعيين.
هكذا كان فتح ملفات إبراهيم سليمان من جديد. خبر صاعق، فهو ابن النظام البارّ يدفع فاتورة أكبر منه؛ فاتورة غسل السمعة واختيار لحظة المحاكمة.
سليمان «شاطر» وموهوب في تشبيك علاقاته، وهذا ما جعله ينجح في إحراج الصحافة كلها، واعتذر له الصحافيون لينقذوا زملاء لهم حبستهم المحكمة لأنهم كتبوا عن المخالفات والفساد.
هو أيضاً عصبي، من السهل إثارته. وعندما يكتشف أنه في مصيدة أسئلة، يكشف عن أنياب تحت الوجه اللامع، وعن شعور بالقوة يغطي اهتزازاً حقيقياً.
هو نجم لامع في مناخ فساد كامل الأوصاف، حكومة ومعارضة (له علاقات وثيقة مع رؤساء تحرير صحف حزبية تدافع عنه وتحميه من خصم ربما في صحف الحكومة). صحافة وتلفزيون ووزراء ومسؤولون، وحماية عليا.
محمية سياسية يشعر داخلها إبراهيم سليمان بالأمان، وهو بارع ومتألق داخل المحمية وفاشل ومرتبك خارجها. وهذا ما يجعله يقاوم حتى آخر نفس لكي لا يخرج من المحمية. يقاوم لكي لا تدار مغسلة الوحوش وهو في داخلها. يقاوم بكل ما يملك من إرادة في الحفاظ على موقعه داخل جاذبية الحماية.
هل ينجح؟ أم أن رغبة النظام في إدارة المغسلة أقوى بكثير؟
النظام في معركة حياة أو موت، ولا يهمه من يكون كبش الفداء. المهم هو التخلص من بعض التركة الثقيلة للفساد، ليبدو خفيفاً نظيفاً في معركة الخلود.
إبراهيم سليمان ضحية جديدة تسقط في لحظة اختارها النظام، ليرفع حمايته ينقله من واجهات النخبة إلى سجون النظام أو غرف محاكمته.
إبراهيم سليمان الآن، يفاوض من أجل ألّا تكون رحلته مباشرة إلى السجن، ويكفي بابتعاده عن الأضواء أو الانزواء في الظل، مستمتعاً بالخميرة الدافئة التي كوّنها في رحلته داخل المحمية الفاخرة.
هذا ما يريده إبراهيم سليمان. وربما اكتفي النظام بنصف غسل، ويبحث عن ضيف جديد على المغسلة. وهذه إحدى الألعاب المعقدة في دولة الملفات.
كل كبير فى السلطة يمسك بملفات على الآخرين المنافسين أو مشاريع المنافسين. هذه لعبة ورثها كبار الحاشية الآن من عصور الملك ورؤساء الجمهورية على اختلاف أنواعهم.
الملف هو أداة السيطرة على الجميع، تخزن فيه معلومات وأسرار من أدق تفصيلة إلى أكبر فضيحة. تفتح الملفات بأوامر عليا، وطبعاً تغلق بالآلية نفسها.
ليس هناك أحد قريب من السلطة أو عبر الواجهات الأمامية للمجتمع إلا له ملف؛ إما فضيحة جنسية وإما أوراق فساد أو علاقات سياسية مع أنظمة تشتري وتبيع المغرمين بالولاء والمحبة المدفوعة الأجر.
ثقافة الملفات تنتشر هذه الأيام مثل ثعابين تخرج من شقوق بيت متهالك على وشك السقوط. والنظام يروض الجماهير المنتظرة بعروض المغسلة.
وحوش نظام حسني مبارك يختلفون عن مراكز القوى في عهد جمال عبد الناصر. هم رجال أعمال غالباً يتمتعون بثروات ضخمة من عطايا «ولي النعم»، لا عبر نشاط اقتصادي يعتمد على المنافسة. الثروة لم تعد شرطاً ثانوياً في الوجود داخل النخبة. إنها الشرط الأساسي، يستوي في ذلك الموظف والمسؤول وصاحب النشاط الاقتصادي. لا فرق إلا في حجم الثروة ونوع الحماية. المنصب طريق للثروة. والثروة طريق لمنصب. لا فرق بعد سنوات رسخت فيها وحوش نظام مبارك قوانين وجودها.
هؤلاء يعيشون بمشاعر خطر دائم. لا يقيمون أبنية قوية، بل مخابئ لهم ولثرواتهم. لا يمدّون جسور النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، لكنهم يمدون شبكات حماية وأسوار مكهربة لكي يمنعون الاقتراب منهم.
هذه نفسية تنشر هستيريا الدفاع عن النفس، وتنقل عدوى افتقاد الأمان من أعلى طبقات المجتمع إلى الطبقات التي سميت «مطحونة»، لكنها الآن تفتقر إلى المفهوم الواضح. تسمى عشوائية لأنها بقايا صراع الوحوش ومخلفات مصانعه.
هكذا عندما تفتح مغسلة الوحوش تصاب قطاعات كاملة بالشلل انتظاراً لعبور الغضبة على خير، ربما باتجاه ضحايا آخرين.

ما يراه المجتمع النائم



محاكمة إبراهيم سليمان باتت من المستحيلات، إلى أن قررت نيابة الأموال العامة فتح ملفاته القديمة. الأوراق كشفت عن اتهامه بالرشوة وتوزيع الأراضي على المحاسيب
«محمد إبراهيم سليمان سينجو»، هكذا قال سائق التاكسي بمنتهى الاطمئنان، خاتماً حديثاً طويلاً عن اليأس والأمل في مصر.
نظرية سائق التاكسي في أنه إذا نجحت الفريسة في البقاء خارج القفص أو أجلت دخولها أو كانت «رجل بره ورجل جوه»، فإنها غالباً ستنجو.
نظريته واضحة: لقد دارت الدائرة على «الوزير الأحمر» (سماه كذلك بعد ملاحظته الاحمرار الدائم للوزير). وعندما تدور الدائرة يتحول الوحش إلى فريسة. وسليمان بـ«يفلفص».
تصورات سائق التاكسي قريبة إلى حد كبير إلى ما يحدث على مسرح السلطة في مصر. إبراهيم سليمان يتجه إلى القفص بقوة دافعة. ظهرت معها الأوراق المختفية عن توزيعه للأراضي، وفتحت الملفات المخبأة في غرف سرية. واختار شخص غامض موعد تحويله إلى فريسة. وهو لا يزال يتمسك بآخر خيوط القوة ليفلت من المصير المرعب.
هكذا يشاهد سائق التاكسي والجمهور الواسع مصارعة الأقوياء في مصر، كأنهم يشاهدون مباراة في التلفزيون لا علاقة لهم بها.
المجتمع تعوّد المشاهدة. والسلطة سعيدة بانفرادها بالبلد منذ أن قالت للمجتمع: «تصبح على خير يا حبيبي... نام في أمان الله وأنا سأقوم بكل شيء. سأوفر لك العمل والأكل والشرب والتعليم، وأنت اترك لي كل المسائل الصعبة في السياسة والسلطة وتوزيع الثروة».
ورغم أن الدولة لم تعد قادرة، وتبرّمت من مسؤوليتها عن المجتمع واستقالت من مهمات تدبير العمل والأكل والشرب، فإنها لا تزال مصرّة على أن ينام المجتمع ويحلم بالسعادة. هذا بينما يتصارع الوحوش على البلد، حولهم جمهور ليس أمامه إلا مصمصة الشفاه والتصفيق، وربما القتل من أجل لقمة خبز أو أنبوبة غاز.
الدولة تخاف من صحوة المجتمع أو عودته إلى الحياة. أي إشارة إلى هذه العودة تزعج السلطة لأنها تريد أن تعمل من دون وجود تقريباً لقوة المجتمع.
وعندما قررت الدولة مغادرة الاشتراكية إلى الرأسمالية والسوق المفتوح، قررت ألّا تصحب معها المجتمع. اختارت منها نخبة توزع الثروات عليها أو تحملها مفاتيح المغارات المغلقة في القطاع العام، ليكون أفرادها هم «المجتمع المختار» أو أهل الثقة في توزيع ثروة البلد، لتنفّذ تعليمات مؤسسات المال العالمية، وفي الوقت نفسه تحت السيطرة. هذه كانت لحظة ولادة المحميات السياسية، التي تربى فيها ديناصورات وحيتان من سلالات مختلفة تتصارع تحت رعاية الدولة.
الدولة تركتهم يلعبون في محمياتها ومزارعها الخاصة، وبينها وبينهم اتفاق غير معلن: من يسقط لا يتكلم. وإذا تكلم فإنه لن يجد سوى الصخرة في فمه.

خيل الحكومة... كمال الشاذلي نموذجاًمصارع الوحوش هي قصة السياسة في مصر. الديموقراطية مستبعدة، التغيير فقط باصطياد وحش وتحويله من هدف إلى مأساة.
المسافة من لعبة التنشين إلى مسرح المآسي هي حدود فعل السياسة. لم يورط نظام مبارك مصر في حروب خارجية، لكنه حول البلد كله إلى ساحات حرب على المواقع و«كعكة» يقضمها القوي ويترك فتاتها للضعيف. حروب منهكة للقوى الحيوية في السياسة والاقتصاد.
تبدو «المغسلة» هنا نشاط سياسي وإعلامي تفاعلي.
من سيحكي تفاصيل الرشوة الغريبة؟ وتوزيع الغنائم إلا دورات مغسلة السمعة الدائرة بشحنات من طاقة النظام في الدفاع عن وجوده.
هناك دورة مغسلة بلا صوت ولا مآسٍ. يمكن تسميتها خيل الحكومة. أشهر ضحاياها كمال الشاذلي، الذي لم يصدق أحد (عندما أبعد من مناصبه السياسية والحزبية في 2006) أنه انتهى. كان أسطورة له سبعة أرواح. كلما مات في موقعة مع الحرس الجديد، عاد بقوة أكبر.
هو خبرة «نادرة» من الصعب تجهيز بديلها بين يوم وليلة. والتصميم الأساسي للنظام يعتمد على الشاذلي بدرجة لا يمكن تخيلها. يحمي نفسه بملفات جاهزة للجميع. ويدير النواب بمنطق القطيع يشد ويرخي. وأخيراً هو يعرف خبايا ودهاليز كل موقع في مصر.
هو مصنّف في قائمة أقدم أعضاء البرلمان في العالم. هو نائب منذ أكثر من 44 عاماً. عابر للعصور. هو في خدمة السلطة ما دامت سلطة. ولاء على الطريقة الريفية، تابع وليس سياسياً. بارع في تكوين جيوش الموالين والمرتزقة وفق عقيدة الإيمان برأس النظام وحكمته، وهو القادر على تحقيق المصلحة.
قال عندما أُبعد من الوزارة إن الرئيس رأى أنه يحتاج إليه في المجالس القومية المتخصصة، وهذا يعني أنه يريد أن يحدث بها تطويراً (وهو كلام قاله من قبل صفوت الشريف عندما أُبعد عن وزارة الإعلام التي ظل على رأسها 22 عاماً).
كمال الشاذلي هو رمز يمكن تحليله لمعرفة مسيرة نظام العسكرتاريا من عبد الناصر إلى مبارك. غيّر بدلة السفاري الشهيرة في أوساط أعضاء الاتحاد الاشتراكي، وأصبح في بذلته الجديدة أقرب إلى أغنياء الانفتاح بالكروش المنفوخة وملامح الثروات المفاجئة.
كمال الشاذلي باختصار «مثقف عضوي»، لكن بكتالوغ لم يعرفه غرامشي.