لا يزال مصير المرشّحين الـ500 الممنوعين من خوض انتخابات آذار المقبل في العراق غير محسوم، على ضوء التدخلات الخارجية. المؤكد أنّ الإصرار على تطبيق القرار دفن لوهم المصالحة الوطنية، ومن شأنه التسبّب بعودة الاقتتال الطائفي من الباب العريض، بما أنّ قاسماً واحداً يجمع المجتثّين تحت ذريعة «البعثية»: غالبيتهم الساحقة من العرب السنّة
بغداد ــ زيد الزبيدي
اعتادت أجهزة ومؤسّسات إعلامية عراقية عدم ذكر كلمة «سنّي» أو «شيعي» في أي من أخبارها وتقاريرها، على قاعدة أنّ الهوية العراقية أسمى من كل الانتماءات الطائفية والعرقية. وقد لفت هذا التوجه انتباه الأحزاب والكتل السياسية الطائفية، وخصوصاً الحاكمة منها، فحاولت الالتفاف عليه من خلال استبدال كلمة «سنّي عربي» بـ«بعثي»، تماماً مثلما باتت تسمّي طائفيتها، هوية وطنية. وتنبّهت وسائل الإعلام الغربية إلى هذه «الحيلة» عندما تحدثت عن «الفضيحة الحكومية» الأخيرة المتعلقة باستبعاد مئات المرشحين المحسوبين على التيار الليبرالي من الانتخابات البرلمانية المقبلة، تحت عنوان «اجتثاث البعث». ووصفتها بأنها عملية «اجتثاث للعرب السنّة»، وتحديداً في المناطق التي يتوقع أن تشهد منافسة حامية. هكذا بات القارئ يجد الكثير من التقارير الغربية والأميركية تتحدّث عن «توجه جديد لإعادة إشعال الحرب الطائفية».

محاولات تمهيديّة

يرى مراقبون أنّ هذه المحاولات بدأت باستبعاد العراقيين المهجّرين أو «عراقيي الخارج» من الانتخابات، وشمولهم بـ15 مقعداً لتمثيلهم في البرلمان (من أصل 325 نائباً سيمثّلون العدد الإجمالي للنواب)، لأن غالبيتهم العظمى من الليبراليين ومن العرب السنّة. ولمّا كانت هذه العملية غير كافية، جاءت محاولة تقليص المقاعد البرلمانية المخصصة للمحافظات ذات الغالبية السنية، تحديداً في نينوى وكركوك وصلاح الدين. لكنها فشلت أيضاً بعد المعركة التي خاضها نائب الرئيس طارق الهاشمي، الذي تمكن من خلالها من إعادة عدد من المقاعد التي كانت ستُعطى للأكراد، إلى العرب السنّة. ثم جاءت المحاولة ما قبل الأخيرة، عندما طرح رئيس الوزراء نوري المالكي مرشحيه السبعة لتأليف هيئة المساءلة والعدالة، التي رفضها البرلمان، لأن المرشحين يمثّلون حزبه «الدعوة الإسلامية»، وهو طرف منافس في العملية الانتخابية. عندها، جاء الوقت للجوء إلى الورقة الأخيرة، وهي إعادة الحياة إلى «هيئة اجتثاث البعث» الملغاة، وهي أيضاً غير محايدة، لكون رئيسها هو مؤسّس «البيت الشيعي» أحمد الجلبي، رئيس حزب «المؤتمر الوطني»، وجمعته علاقات وطيدة حتى وقت متأخر مع نظام الرئيس الراحل صدام حسين. أما المدير التنفيذي لـ«الهيئة»، فهو علي اللامي، وكلاهما من المرشحين للانتخابات، إضافة إلى أن حزب الجلبي سبق أن خاض الاستحقاق السابق في 2005، ولم يحصل على أي مقعد.
الأمم المتحدة وواشنطن غير راضيتين عن «الهيئة» المنحلّة قانوناً
ويرى عدد كبير من المراقبين، العراقيين والعرب والأجانب، أنّ الحديث عن «اجتثاث العرب السنّة» هو «حقيقة جليّة»، لأن كل الكتل والشخصيات التي شملها الاجتثاث لا علاقة لها من بعيد أو قريب بحزب «البعث»، الذي لا يعترف أساساً بالعملية السياسية، الأمر الذي يطرح علامات استفهام كبيرة على «المصالحة الوطنية» التي تتحدث عنها أحزاب الحكومة.
وهنا يطرح المراقبون سؤالاً «ساذجاً» ولكنه معبّر: هل يمكن أن تستقطب هذه «المصالحة» أي طرف من خارج «العملية السياسية» بعد استبعاد أطراف أساسية فيها؟ وكيف يكون هؤلاء المشاركون في «العملية السياسية» «معادين للعملية السياسية»؟، وبالتالي، من هو المسؤول عن تبديد أموال الدولة على المؤتمرات التي تعقد تحت واجهات «المصالحة العراقية»؟
وهنا يحلو للعديد من السياسيين العراقيين اعتبار أن «المساءلة والعدالة» كتبت، بإيعاز من الحكومة وأحزابها، شهادة وفاة لشيء اسمه «المصالحة الوطنية». وهنا تأتي الطامة الكبرى، لأن مشروع المصالحة هو في الأساس مشروع أميركي، بُدئ بتنفيذه الفعلي عند تأليف «مجالس الصحوات»، رغم اعتراضات الحكومة وأحزابها. ثمّ عُقدت مؤتمرات ونُشرت وثائق للمصالحة برعاية الأمم المتحدة والجامعة العربية وعدد من الدول العربية والإسلامية، والغربية أيضاً، وهو ما يعطي الحق لكل هذه الأطراف بالتدخل عند شعورها بأنها خُدعت، وأنّ هناك انتهاكات لما تمّ التوصل إليه في المؤتمرات التي رعتها.

دور الأمم المتحدة

إلا أنّ هيئة «المساءلة والعدالة»، المنتهية صلاحيتها، استفزّها رأي بعثة الأمم المتحدة في العراق، التي قالت إن انتخابات آذار المقبل لن تكون شرعية في حال الإصرار على منع 500 مرشّح من خوضها، وطلبت عدم شطب أسماء المرشحين، وفق عرف قانوني دولي، هو أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، وإن كل الذين شُطبت أسماؤهم لم يدانوا بالاتهامات التي وجهتها الهيئة إليهم. موقف أممي ورد في بيان خلص إلى أن هذه الاتهامات يبتّها القضاء بعد الاستماع إلى دفاع المتهمين.
وكان لافتاً منسوب غضب الهيئة على موقف الأمم المتحدة وممثلها في بلاد الرافدين إد ملكرد، فطالبتها بـ«عدم التدخل»، وبسحب رئيسها واستبداله، مهدّدة باللجوء إلى «الطرق القانونية» لمنع أي تدخل في الشأن الانتخابي العراقي. وأغرب ما جاء في بيان الردّ نفسه لـ«الهيئة»، هو مطالبة الأمم المتحدة بتأدية جهود «لمنع تدخل الدول المجاورة في العراق». دعوة إلى التدخل وأخرى لعدمه في عبارة واحدة.
وقد تناست هذه الهيئة حقيقة أنّ العراق لا يزال تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إذاً لا سيادة له فعلياً، إضافة إلى أنّ البعثة الدولية طرف أساسي في الإشراف على العملية الانتخابية و«المصالحة الوطنية».
وفي السياق، يسخر البعض من تساؤل بعض الأطراف الطائفية «أين كانت الأمم المتحدة عندما كان نظام صدام حسين يضطهد العراقيين، لكي تدافع عن البعثيين الآن؟». سخرية مردّها إلى أن هذا التساؤل غير البريء يتجاهل حقيقة أنّ حصار الأعوام الـ13، الذي مهّد للغزو، كان بموجب قرارات الأمم المتحدة وبمساعدة الحكام الحاليين، الذين كانوا في المعارضة سابقاً، وهو حصار لم يطل سوى الشعب العراقي لا حكامه الديكتاتوريين.
ويرى بعض المحللين أن هذا التساؤل إنما يأتي ترداداً لما قاله نوري المالكي قبل أيام، عن أنّ العراق كان «منقوص السيادة» في عهد النظام السابق، لأنّ فرق التفتيش عن أسلحة الدمار كانت تجوب البلاد طولاً وعرضاً.
لكن هنا أيضاً لا تبدو المعطيات التاريخية لمصلحة المالكي وفريق عمله، بما أنّه معروف أن فرق التفتيش كانت تتلقى معلوماتها من المعارضة السابقة، الحاكمة حالياً، وبالأخص من الجلبي الذي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، في أيار 2004، أنها قطعت دعمها المالي الشهري له (340 ألف دولار).

مسؤولية الاحتلال

ولأنّ العراق فاقد السيادة، فإنّ التطاول عليها يضرّ أحياناً بالقيّمين على أحواله؛ فقد اتصل نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن هاتفياً برئيس مجلس النواب أياد السامرائي، قبل أيام، معرباً عن «عدم ثقته بهيئة الاجتثاث وقراراتها»، ومقترحاً أن تكون عملية المساءلة بعد الانتخابات لا قبلها، «على أن يقدم المرشحون تعهدات بالبراءة من حزب البعث وإدانة كل جرائمه السابقة»، حسب بيان لمكتب رئيس البرلمان.
«البعث» لا يؤمن بالانتخابات ولا بالعملية السياسية
كذلك أعرب السفير الأميركي في العراق، كريستوفر هيل، عن «تخوّفه من تأثير قرارات الاجتثاث على الأجواء السياسية في البلاد وعلى جدولة الانسحاب الأميركي من الأراضي العراقية». وبحث مع السامرائي إمكان التصديق على أسماء جديدة في مجلس النواب لعضوية «المساءلة والعدالة» بعد فشل الأسماء الأخيرة المرشحة من رئاسة الوزراء في نيل ثقة المجلس.
كذلك اتصل بايدن بالرئيس جلال الطالباني ليكثّف جهوده في بغداد هذه الأيام من أجل حلحلة الأوضاع ومعالجة المشاكل التي تشهدها الساحة العراقية.
ووفق بيان لرئاسة الجمهورية، فإن الرئيس جلال الطالباني طمأن بايدن إلى أنه «سيعود في القريب العاجل إلى بغداد لمواصلة دوره المصيري، وأنه سيبذل قصارى جهده لحل القضايا التي تهم الشعب العراقي». موقف أشبه بالقول «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»، بما أنّ الطالباني نفسه حرّك «الهيئة» لاجتثاث النائب نصير العاني على خلفية تجرّؤ الأخير على القول إنّ الرئيس الحالي غير صالح لرئاسة البلاد.
وخلاف تصرّفها مع بعثة الأمم المتحدة، لم تعلّق هيئة «المساءلة والعدالة» على تدخّل بايدن، كذلك لم تطلب من الرئيس باراك أوباما استبدال نائبه، أو تغيير السفير الأميركي في بغداد.
يبدو أنّ الأحزاب العراقية الدينية الحاكمة التي فقدت رصيدها في الشارع العراقي، تفقد حالياً صدقيتها لدى العواصم العالمية التي قد تكون اقتربت من الاقتناع بأنّ الحكام الحاليين لبغداد عاجزون عن تحقيق «المصالحة الوطنية»، ولو جزئياً، وهي التي تتيح وحدها التخلّص من المستنقع العراقي.


رئيس «الاجتثاث» بعثي سابق!وفي حوزة الصحف العربية وثيقتان، إحداهما صادرة عن جهاز الاستخبارات العراقي في عامي 1985 و1986 ونصّت على الطلب من السفارة العراقية في عمان إدامة الصلة مع الجلبي، بينما تدعو الوثيقة الثانية السفارة نفسها إلى توجيه الشكر إلى الجلبي «بموجب تعليمات من السيد الرئيس حفظه الله ورعاه، لدعمه للمجهود الحربي في الحرب مع إيران». وثائق أكّد «المؤتمر الوطني» أنها مزوّرة من قبل حكومة إياد علاوي.