يتصل القرار الإسرائيلي بشنّ عدوان على قطاع غزة، بالسياقات السياسية والأمنية المرتبطة بأطراف الصراع، وبالتالي لم يكن وليد ساعته، ويشبه في سياقات معظم اعتداءات إسرائيل وحروبها. من هنا، فإن محاولة حصر دوافع العدوان على قطاع غزة بعمليات إطلاق صواريخ، هي محاولة تحمل الكثير من التجني والتبسيط
علي حيدر
تشير العودة إلى السياقات السياسية والأمنية التي سبقت العدوان على غزة، إلى أن قرار شنّ العملية العسكرية الواسعة النطاق، المسماة «عملية الرصاص المصهور»، جاء بعد استنفاد إسرائيل لمجموعة من الخيارات المتتالية والمتعددة التي هدفت إلى احتواء «حماس»، وبقية فصائل المقاومة، أملاً في القضاء عليها أو تحجيمها.
رغم ذلك، لم ينقطع الحديث الإسرائيلي عن شنّ عملية عسكرية على القطاع، منذ الحملة العسكرية على الضفة الغربية عام 2002، بما يعرف بعملية «السور الواقي». إلا أن استهدافات الحديث عن عملية عسكرية كانت لأغراض الردع والتهويل. مع ذلك، تلقى خيار إسرائيل بشنّ عدوان على غزة دفعاً فاعلاً في أعقاب انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع عام 2005، وأيضاً فشل محاولة احتواء «حماس» من خلال تفعيل خيار إشراكها في السلطة نتيجة ما آلت إليه الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006، وتأليف حكومة فلسطينية برئاستها.
من أهم العوامل التي دفعت بالقيادة الإسرائيلية إلى وضع العدوان كخيار محبّذ على طاولة الخيارات المتاحة، إجهاض حركة «حماس» لمخطط الجنرال الأميركي كيث دايتون، الذي كان يشرف على تدريبات وخطط تستهدف إسقاط الحركة عسكرياً بأدوات فلسطينية، من داخل القطاع.
أحد العوامل الأخرى، كان مراكمة الحركة الإسلامية لقدرات عسكرية، وتحولها إلى «تهديد للأمن القومي» الإسرائيلي. وقد وجدت الخشية الإسرائيلية من «حماس» تعبيراتها في توصيات المؤسسة الأمنية وتقديراتها، التي أكدت أن «حماس» قد تجاوزت الخطوط الحمراء الموضوعة لجهة مراكمة القدرة العسكرية، ما وفّر الأساس والدافع لاتخاذ قرار شنّ عدوان شامل.
ضمن هذا السياق، رأت إسرائيل أن عليها استغلال ما بقي من ولاية الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، لتوجيه ضربة، أرادت أن تكون قاصمة لحركة «حماس»، وتعزز هذا الاتجاه أكثر في ظل خشية القيادة السياسية الإسرائيلية من أن يؤدي استمرار تساقط الصواريخ من قطاع غزة، إلى تداعيات سلبية على فرص نجاحها في الانتخابات العامة للكنيست، التي جرت في 12 شباط 2009، وهذا ما حصل بالفعل.
بعد مرور عام على العدوان، تعاود التساؤلات القديمة لتطرح نفسها من جديد: هل تقدم إسرائيل على شن عدوان على قطاع غزة؟ وما هي الآفاق التي يمكن أن يصل إليها عدوان كهذا؟
لتستقيم الإجابة، من المفترض الإشارة إلى أن وضع حركة «حماس» وقدرتها العسكرية ومنعتها السياسية، كما تبدو بعد عام على العدوان، يمثّل دافعاً وحافزية للاحتلال، كي يعيد تكرار خياراته العسكرية حيال قطاع غزة.
يضاف إلى ذلك، أن أهم خيار بديل للخيار العسكري لإسقاط «حماس» أو احتوائها، هو الحصار الإسرائيلي والعربي المفعل منذ عام، مع تحميل الحركة مسؤوليته وما ينتج منه من مآسٍ للشعب الفلسطيني، وربط هذه النتيجة بخيارات الحركة ونهجها المقاوم. ورغم ذلك، تمكنت «حماس» من تطوير قدراتها العسكرية، استناداً إلى العبر التي استخلصتها من عدوان 2008، حتى بلغت مستويات قياسية، وفقاً للتقارير الاستخبارية الإسرائيلية، قياساً على ما كانت تملكه من قدرات عشية العدوان، الأمر الذي يزيد من أزمة إسرائيل وقدرتها الفعلية على تجاوز «حماس» بوصفها عقبة تحول دون أي تسوية يراد إمرارها والإصرار عليها من الأميركيين. في المقابل، هناك العديد من الأسباب والاعتبارات الكافية لكبح الاندفاعة الإسرائيلية نحو عملية عسكرية واسعة في هذه المرحلة، لعل من أبرزها:
ـــــ عدم استنفاد الرهانات على ما قد يقوم به النظام المصري، كخيار بديل للخيار العسكري المكلف، وتحديداً في ظل بناء جدار فولاذي بمزايا يمكن أن يراهن عليها إسرائيلياً، في الحد من تطوير المقاومة في غزة لقدراتها العسكرية، بالمستوى الذي يفاقم تهديدها للأمن الإسرائيلي.
ـــــ اضطرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للانسجام مع الأولوية الأميركية، في هذه المرحلة، بدفع عملية التسوية على المسار الفلسطيني، وهو ما يؤدي إلى كبح أي اندفاعة مفترضة نحو تصعيد عسكري واسع على الجبهة الفلسطينية، قد يؤدي إلى تداعيات ميدانية وسياسية غير معروفة النتائج.
ـــــ الانهماك الإسرائيلي بالاستعداد وتوجيه الأضواء نحو البرنامج النووي الإيراني، بعدما بلغ مرحلة حرجة وتشخيص القيادة الإسرائيلية، بكل عناوينها السياسية والعسكرية والاستخبارية، بأن إيران باتت تملك ما يكفي من الخبرة والمواد والإمكانات التي تمكّنها من صناعة أسلحة نووية. وأي عدوان على قطاع غزة، سيؤدي إلى حرف أولويات الإدارة الأميركية واهتماماتها، وهذا آخر ما تريده إسرائيل، نظراً لما تمثله إيران من تهديد للأمن القومي الإسرائيلي.
ـــــ تفتقر القيادة الإسرائيلية إلى مشروعية دولية لازمة في هذه المرحلة، وتبعاً لها مشروعية داخلية، لشنّ عدوان واسع على غزة، وخصوصاً أن الوضع الأمني شبه الهادئ من شأنه أن يكبح أي اندفاعة في هذا الاتجاه في الوقت الراهن. كذلك، إن انسداد أفق التسوية، مع حكومة يغلب عليها الطابع اليميني المتطرف، يمثّل عاملاً إضافياً للكبح الإسرائيلي.
من ناحية ميدانية صرفة، على إسرائيل أن تحدد أهدافها من أي عدوان جديد على القطاع، وخصوصاً أن هذا الخيار العسكري قد استُنفد على نحو كبير في العدوان السابق، وبالتالي على القيادة العسكرية الإسرائيلية أن «تنتخب» أهدافها بناءً على ما يمكن أن يتحقق قياساً على تجارب الماضي: إعادة احتلال القطاع، أو تدمير القدرات العسكرية لـ«حماس» وبقية الفصائل، أو تطويعها سياسياً، أو اخيراً فرض إجراءات ميدانية تحول دون مواصلة تعاظم القدرات العسكرية.
في كل الأحوال، يبقى الرهان الإسرائيلي في هذه المرحلة منصباً أساساً على ما قد يحققه النظام المصري في هذا المجال، بانتظار ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية على مستوى التسوية، وعلى مسار الملف النووي الإيراني.