وين الملايين؟
منذ اليوم الأول لحرب غزة العام الماضي، أنا أتنقل من تظاهرة إلى اعتصام، ومن اجتماع إلى ورشة عمل. حتى بعدما أُصبت بنزلة برد قاسية بعد «دوش» بارد في تظاهرة بعوكر، عدت إلى التظاهر والاعتصام، وأنا أتسلح بأكبر كمٍّ ممكن من المحارم الورقية وأدوية الرشح.
أذكر أننا في اليوم الأول للعدوان، اعتصمنا رمزياً أمام السفارة المصرية. وفي الأيام اللاحقة تحول الاعتصام الرمزي إلى مواجهات. وتدريجياً، أصبحت رؤية السفارة المصرية حلماً يشبه تخطي معبر رفح.
تنقلنا بأعلامنا وشموعنا ولافتاتنا، بين الحمرا وفردان، ساعين إلى إغلاق ستاربكس. وحملنا أفكارنا وغضبنا بين اعتصام السوديكو والاجتماعات المتنقلة. إلى أن مللت.
الوجوه ذاتها، والحناجر ذاتها، والشعارات ذاتها. تتناقص وتتزايد، حسب مكان التظاهرة وزمانها. عشت اثنين وعشرين يوماً مع الرفاق، حتى كدت أصبح رفيقة. أينما التفتّ كنت أراهم، ولا أثر للإخوة والأخوات، وحضور خجول لمن هم مثلي، «المتحمسون المستقلون للقضية».
أذكر أنّ إحدى صديقاتي الفلسطينيات نزلت إلى تظاهرة النعوش التي جالت شوارع بيروت، بعدما أدّت دور الضمير، ضاغطة عليها بقول: «ولو، عالقليلة كرمالي أنا». رغم أن تظاهرة النعوش كانت أكبر التظاهرات التي شاركت فيها العام الماضي، إلا أنها كانت أقل حماسة وعدداً من تظاهرات الطلاب التي شاركت فيها عندما كنت في المتوسطة. عندها كنا نتمرد على الإدارة ويتواطأ معنا الأساتذة، فنخرج في تظاهرات داعمة للانتفاضة وأبو عمار. كنا نجوب شوارع صيدا ونمرّ على المدارس الأخرى، لندعم خيار تمرد الطلاب الذين يخرجون أخيراً ليشاركونا غضبنا، أو ليهربوا من ساعات الدراسة.
لم أعد استغرب تقلص أعداد المتظاهرين، بعد سماعي طالباً جامعياً يقول لسائق فان إن الحق ليس على مصر وإسرائيل فقط، بل على لبنان أيضاً. لا أنسى نظرة التهكم على وجه السائق عندما قال له الشاب: «لماذا يسبّون مصر بعدما أغلقت حدودها، ولماذا يطالبونها بفتح معبر رفح؟! فليطالب هؤلاء المنافقون الحكومة اللبنانية بفتح حدودها مع فلسطين لفكّ الحصار عن غزة».
قد يكون الحق على كتب الجغرافيا التي لم تعلّم ذلك الطالب خريطة فلسطين وحدودها. وقد يكون الحق على كتب التاريخ التي توقفت ذاكرتها عند وعد بلفور، من دون أن تبشرنا بدخوله حيز التنفيذ منذ زمن طويل طويل.
بيروت ــ سحر البشير

شكراً قطر

مرّت الذكرى الأولى للحرب على غزة، وها أنا أعيش مجدداً الحزن والغضب جراء سقوط المناسبة سهواً من روزنامات حكامنا. لا، لا تلوموا الشعب العربي، فهو بمعظمه لا يعرف معنى أن يموت ابن الجيران بصاروخ حراري، معنى أن قريته أصبحت كمّاً من الخراب للمرة الألف، ولا يعرف معنى أن المخيم الذي ترعرع فيه وانقطع عنه الخبز والماء. فيا شعب المكيّفات، يا شعب المولات، يا شعب العبايات السود والكمّ الهائل من المكياجات، أنتم لا تعلمون ولن تعلموا معنى غزة، ما دام مخزون النفط يعطيكم الأمان!
حرب غزة تشبه بملامحها حرب تموز، العدو نفسه، الاستراتيجية نفسها والحقد واحد. إسرائيل تقول: «أمريكا، أعطينا ما عندك من سلاح جديد. أسلحة لم يتسنّ لك استخدامها في أفغانستان أو العراق. سنجربها لك، وسنؤكّد لك بالصوت والصورة ماذا تفعل وكيف يدوم تأثيرها لعشرات السنين. هذه خدمتنا، وفي المقابل، ستدعمنا في مجلس الأمن، فنحن معنا السلاح وإنت معك الفيتو». أما نحن فنقول: «يا عرب، اذرفوا علينا دمعتين، علّقوا لشهدائنا وجرحانا صورة. أرسلوا لنا كراتين محمّلة مساعدات، واسمحوا للعدو بأن يملأ طائراته بالوقود عندكم، فالجسر عندنا مدمّر ولسنا بحاجة إلى وقود السيارات. علبة حليب النيدو هي تماماً ما نحن بحاجة إليه. هذه خدمتنا لكم، فمنّا الدم، ومنكم الحليب». بعد الحرب دوماً، يتفاخر العرب بالنصر المجيد. أيّ نصر؟ إن كان القطاع ما زال محاصراً، لا بل إن الأشقاء في مصر يبنون جدارهم الخاص. أيّ نصر؟! أنا لم أر شبراً من فلسطين قد تحرر. لدينا الكثير من النفط، لكن لا كرامة. سأعطيكم مثلاً عن الكرامة: انتشرت في منطقة بيروت لوحات إعلانية ضخمة كتُب عليها «شكراً قطر». كان ذلك بعد أن قدمت الدولة المذكورة مساعدات هائلة لتعويض متضرري حرب تموز. نحن نتذكر دائماً «بعد أن» وننسى دائماً «قبل أن»، فقبل أن تخفّ قطر لمساعدتنا، هبط الطيران الحربي الإسرائيلي فيها ليتزوّد بالوقود ويخزّن السلاح، أين كانت مواقفنا؟ فعلاً، شكراً قطر!
بيروت ــ إيمان بشير