لا يوفر فلسطينيو مخيم الجليل في بعلبك سبيلاً للدفء في براكسات سكنهم، إلا ويسعون إليها، بعدما غابت القدرة على شراء المازوت وغابت معها المبالغ التي كانت الأونروا تغطي جزءاً زهيداً منها، فكانت الحلول الحرامات والمدافئ الكهربائية وصولاً إلى «بابور» الكاز.
البقاع ــ رامح حمية
قبل مغيب الشمس بقليل، يخرج وليد، ابن الاثني عشر ربيعاً على عجل من باب مخيم الجليل في بعلبك متوجهاً إلى محطة الدبس للمحروقات، التي لا تبعد أكثر من مئة متر. تبلل زخات المطر ثيابه الرقيقة، وهو يقبض بيده اليمنى على «مطرة» بلاستيكية، وفي اليسرى ورقة نقدية من فئة خمسة آلاف ليرة، كفيلة بشراء أربعة ليترات من المازوت، لتمرير بضع ليال من صقيع البقاع القارس. فمخيم الجليل لديه طابق إضافي من المعاناة ناشئ عن كونه، عكس غيره من المخيمات الفلسطينية في لبنان، يقع في منطقة شتاؤها قاس، الأمر الذي يفرض على قاطنيه تدبير الدفء يومياً، في ظل البطالة المستشرية وغياب اهتمام الأونروا بحل مشكلة مازوت التدفئة.
تدخل المخيم، محاولاً الطواف ببعض أهله في بيوتهم، أو براكساتهم على الأصح، لمعاينة حالهم وحالها في هذه العاصفة. وإن كانت الحركة بركة في النهار، أي إنها تؤمن بعض الدفء للناس، فإن السبيل الأساسي لتأمينه ليلاً هو تقنين استعمال المازوت الذي يشترى بالليتر والليترين. ما خلا ذلك؟ تحظى الأغطية الصوفية، أو الحرامات بالموقع الريادي الأول، تتبعها في الترتيب المدافئ الكهربائية حين تتوافر، وتصل الأمور في بعض الأحيان إلى حد الاعتماد على «البابور»، نعم البابور الذي لا يزال شغالاً هنا، وتنكة المياه فوقه، فيضرب عندها الناس عصفورين بحجر واحد: الدفء وتسخين المياه.
تقطن منى عبود (48 عاماً) مع والدتها وشقيقتيها، في أحد براكسات المخيم. جدران «البيت» أطاحتها التشققات والتصدعات، وأمعنت مياه الأمطار بالتسرب إلى داخل الغرفة التي ينامون فيها، «الماي بتشر فيها شر»، تقول السيدة، ما استدعى انتقالهم جميعاً إلى ... المطبخ. وعند سؤالها عن طريقة التدفئة التي يعتمدونها، تضحك وتقول: «نعتمد على مدفأة الكهربا ووقت اللي بتقطع ما إلنا إلا.. ألله والحرامات»، فليس بمقدروها تحمل كلفة المازوت والحطب، لأنهم يعتمدون على ما يتيسر من إخوتهم.
أما صالح يوسف الذي يقطن وابنتيه في «خشة» (بيت زينكو صغير جداً)، فقد أكد أن التدفئة تقتصر عنده على بعض الليترات من المازوت التي يدفع ثمنها ابنه البكر (يعمل في البلاط) المتزوج، حين تفيض بعض القروش عن حاجة عائلته المؤلفة من زوجة وأربعة أولاد. ويعتبر أبو غسان أن الأونروا تخلت عن أبناء مخيم الجليل وتركتهم لظروف «حياتية صعبة جداً وقاسية»، لا يمكن إنساناً أن يتحملها، مشيراً إلى أن التصدعات في الجدران تسمح بتسرب مياه الأمطار وحتى الهواء، مما يجعل أمر التدفئة صعباً جداً، موضحاً أنه يسعى كل عام لإصلاح التصدعات بالترابة لكن دون جدوى.
وإذا كان بعض أبناء المخيم لم يتمكنوا من توفير مادة المازوت فإن «أولاد الحلال» تبرعوا بكمية 200 ليتر لعائلة وسام دلال التي أكدت أنها لم تعرف اسم المتبرع، وتحاول جاهدة عدم إشعال الصوبيا إلا في حالات «البرد القارس ووجود مريض أو ضيوف ونقطة نقطة»، معتمدة خلال بقية الفترات على مدفأة كهربائية وحرامات.
وإذا كان بعض أبناء مخيم ويفل، قد لجأ لتأمين التدفئة لعائلته باستعمال بضعة ليترات من المازوت أو على حرارة سلك مدفأته الهزيل، فإن محمد الكايد وهو يعمل حمالاً على باب الله، يعتمد على بابور الكاز للتدفئة، فتلتمّ وعائلته حوله وقد غطوا ظهورهم بالحرامات. ثم ينظر إليك وهو يقول «شو بدنا نعمل؟».
وضع أبناء مخيم الجليل لم ينفه كارم طه أمين سر اللجنة الشعبية للتحالف الفلسطيني في مخيم الجليل، الذي هاجم بدوره تقصير الأونروا، الذي من شأنه دفع الناس «للانصياع للأمر الواقع والدخول في دوامة التوطين». طه في حديث لـ«الأخبار» أكد أنه استند في رأيه إلى الاجتماع الذي عقده مع مدير الأونروا في لبنان بداية فصل الشتاء والذي نقل فيه الصورة عن وضع المخيم، بغية إعلانه «منطقة منكوبة» بالنظر إلى الأوضاع المعيشية «المتردية جداً»، وحالة التصدع في بعض الأبنية وما ينتج منها من تسرب لمياه الصرف الصحي والأمطار إلى داخل البراكسات، ليفاجأ برد مفاده «أن الدول المانحة قلصت من مساعداتها، ولا يمكن ذلك خلال هذه الفترة». ويصر طه على أن الوضع المأساوي الذي وصل إليه المخيم، ناجم عن تخلي الأونروا عن دعم أبنائه وتوفير الخدمات لهم وفي مقدمها مازوت التدفئة، حيث يدرك الجميع مدى خصوصية مخيم الجليل ــــ بعلبك، وانفراده عن غيره من المخيمات الفلسطينية بالموقع الجغرافي في منطقة باردة جداً خلال فصل الشتاء (1200متر عن سطح البحر)، مؤكداً أن بعض العائلات يمكنها توفير مادة المازوت بفضل المال الاغترابي لكن عدداً كبيراً منها لا يمكنه تأمين ليترات من المادة بالنظر إلى حالة البطالة المستشرية، فيكتفي بالحرامات والمدافئ الكهربائية في فترات التغذية بالتيار، فيما البعض الآخر «إلو ألله». ولفت إلى أن الأونروا كانت منذ سنتين تدفع مبلغ 75 ألف ليرة للتدفئة عن العام بأكمله، وقلصت المبلغ إلى 50 ألف ليرة العام الماضي أما العام الحالي «فما عاد في فلوس أبداً».


مصدر في الأونروا (رفض ذكر اسمه) أكد في اتصال مع «الأخبار» أن المنظمة الدولية في «عجز مالي كبير يؤثر على خدماتها للمخيم، وذلك نتيجة عدم إيفاء الدول المانحة بالتزاماتها المالية»، الأمر الذي أدى إلى تقليص المبالغ الممنوحة كثيراً، مع إدراكهم للحالة المزرية التي يعيشها أبناء مخيم الجليل. ولفت المصدر إلى أن المبالغ المالية التي كانت الأونروا توزعها سابقاً كانت تتم وفقاً «لخطة طوارئ» لا لبرنامج سنوي، مرجحاً توزيع مبالغ مالية على حالات خاصة بالمخيم دون معرفة السقف الزمني للأمر، «وخاصة مع وجود أزمة مالية خانقة في الأونروا»