strong>إسرائيل والحرب المقبلةيكثر الحديث عن حرب وشيكة. مخاوف تتجدّد منذ غزو العراق مع إطلالة الربيع من كل عام، عندما تصفى الأجواء للعمليات العسكرية. ولشدة تكرار التحذير من حرب كهذه، بات يُخشى سيناريو مشابه لما حصل مع ذاك الراعي الذي اعتاد ممازحة أهل القرية عبر الصراخ مدّعياً أن ذئباً يهاجمه، إلى أن جاء اليوم الذي تعرض فيه قطيعه حقاً لعدوان ولم يجد من ينجده

إيلي شلهوب
نقاش موسمي كالذي يتكرر عن حرب وشيكة في المنطقة يفترض إجابة عن ثلاثة أسئلة: هل حقاً حرب كهذه حتمية؟ وإذا كانت كذلك، ما هي العوامل التي تستعجلها والكوابح التي تعيقها؟ وإذا حصلت، ما هي احتمالية أن تتدحرج إلى حرب إقليمية شاملة؟
حتمية الحرب تقرّرها نظرة كل طرف من أطراف المعادلة الإقليمية، المعنية بالصراع في المنطقة، لكينونته ولمستوى الخطر الذي يَعدّه وجودياً. من ناحية إسرائيل، يبدو واضحاً، بحسب الأدبيات العبرية، أن تعريفها للخطر الوجودي يتلخّص في امتلاك أيّ طرف إقليمي (صديقاً كان أو عدواً) مقداراً من القوة يفوق ما تمتلكه هي (وقد بنت استراتيجيتها خلال القرن الماضي على مبدأ أن توازي قدراتها ما يمتلكه العرب مجتمعين). وأهم عناصر القوة هذه معروف أنه أسلحة الدمار الشامل. من هنا عُدّ العراق في السابق أنه يقترب من أن يكون تهديداً وجودياً، فضُرب مفاعل تموز. وللسبب نفسه تعدّ إيران اليوم تهديداً وجودياً فاقَمَ من حدّته وجود حزب الله في الشمال ومعه صواريخه التي تطاول كل بقعة من الدولة العبرية، و«حماس» في الجنوب مع قوة بات معروفاً اليوم أنها توازي ما كان يمتلكه حزب الله عام 2006.
لا داعي طبعاً إلى الاسترسال هنا في أن الوظيفة الرئيسية لفكرة الكيان الإسرائيلي في المفهوم الصهيوني هي «الوطن الأم» الذي يقدّم «الأمن والأمان» إلى اليهود الذين «اضطُّهدوا» في كل أنحاء العالم. وبالتالي، فهو معرّض للفناء (بمعنى الهجرة الجماعية المعاكسة منه) بمجرد أن يفقد هذه الوظيفة.
هناك أيضاً نوع من الأخطار أقلّ درجة، لكنه بلا شك يؤرق مضاجع إسرائيل، وإن كانت ترى أن إمكان تعطيله قائمة، بوسائل متعددة، على المدى القصير، لكنه في طريقه إلى أن يتحول إلى تهديد وجودي على المدى الطويل. أخطار كهذه تقاس بقدرة طرف ما على إلحاق الأذى بالعمق الإسرائيلي، وبطبيعة العداء المستحكم وإمكان التوصل إلى تسوية معه عند الحاجة.
في مقدمة هذه الأخطار يأتي حزب الله، الذي يخوض صراعه مع الكيان العبري منذ بداية الثمانينات. فترة لحظ خلالها عسكر إسرائيل ومدنيّوها معدل الارتقاء في القوة لديه، وقد اختبروه في الميدان خلال عدوان تموز. كما تأكّدوا، على مدى عقود، من مبدئيته القائمة على عقيدة كربلائية صلبة لم تساوم يوماً، ولا يتوقع أهل الدولة العبرية أن يأتي يوم يحصل فيه سيناريو كهذا.
يليه في الترتيب سوريا، ليس من ناحية مقدار ما تمتلكه من قدرات عسكرية، وهو يتجاوز، كمّا ونوعاً، بأضعاف ما يمتلكه الحزب. بل من ناحية احتمالية خوضها نزاعاً مسلحاً، من وجهة نظر تل أبيب، تجنّبته على مدى أكثر من 27 عاماً. يضاف إلى ذلك أن سوريا دولة، لا ميليشيا، لها مصالحها التي تتعامل معها ببراغماتية، بحسب إسرائيل التي تراهن على تسوية تفك عنها «عناق الدب الإيراني»، تراها قابلة للتحقّق إذا وجدت نفسها مضطرة إلى دفع الثمن المناسب.
وتحل في المرتبة الثالثة المقاومة الفلسطينية، وفي طليعتها حركة «حماس»، التي تقيّد حركتها في غزة حقيقة أنها تتحرك في بقعة ضيقة جداً (لا عمق استراتيجياً) محاصرة من الجهات الأربع، وفي الضفة الغربية قوات دايتون و«الدمى السلمية» التي تتولى مقاليد السلطة في المقاطعة.

إسرائيل في عيون أعدائها

تتزايد احتمالات
المغامرة العسكرية مع كل ثانية تمر على عمل أجهزة الطرد الإيرانية
في المقابل، هناك إيران، حيث يجب التمييز بين الدولة والنظام. إيران كدولة لا مشكلة لها مع إسرائيل حيث لا نزاع حدودياً بينهما، ولا صراع مصالح. طبيعة العلاقة يحددها النظام الحاكم في طهران، التي كانت حليفاً موثوقاً به لتل أبيب في العهد الشاهنشاهي، حيث عمل رجال «الموساد» جنباً إلى جنب مع عملاء «السافاك» في استبداد الشعب الإيراني. حال اختلفت في عهد الجمهورية الإسلامية التي تنظر إلى نفسها وإلى العالم من زاوية عقائدية من السخافة استهانة البعض بها بحجج أن «لا دليل علمياً عليها» وقد ماتت في سبيلها أعداد لا تحصى على مر التاريخ. عقيدة مهدوية تعطي النظام شرعيته (بنظر المقتنعين بصوابيتها والمستعدّين للتضحية في سبيلها)، خطَّ الخميني ترجمتها السياسية في المنطقة: أميركا شيطان أكبر وإسرائيل غدّة سرطانية.
موقف مبدئي معاد لإسرائيل ككيان موجود، انسحب على علاقة إيران الدولة الأمّة (وتبقى فارسية) معها، يجري التعبير عنه في إطار صراع نفوذ في المنطقة، تشارك فيه عدّة أطراف، تتقدّمها تركيا والسعودية ومصر. وهنا لا بد من التأكيد على أن البراغماتية الفارسية تلعب ضمن الإطار العقائدي الديني الذي لا يمكنها تجاوزه، وإلّا فسيصبح النظام نفسه في خطر (شرعيته ونطرته إلى إسرائيل تنهلان من المصدر نفسه). العداء الإيديولوجي هذا ينسحب على حزب الله، الذي يمتلك أسباباً إضافية لخوض معركته المتواصلة مع إسرائيل. أسباب حسية تتعلق بوجوده نفسه (أنشئ لمقاومة احتلال 1982) وبحاضنته الشعبية بمعناها الضيق (والمقصود هنا أهل الجنوب اللبناني، الذين عانوا ما عانوه من الإسرائيليين، والمهدّدون في كل لحظة في حياتهم وأرزاقهم) والواسع (المقصود باقي اللبنانيين، ممن يعدّون أنفسهم متضررين من الكيان العبري).
حال حزب الله تتماهى بأشكال متعددة مع حال «حماس»، التي يستند صراعها مع إسرائيل إلى أسس عقائدية وموضوعية (تبقى فلسطين الضحية والقضية الأم).
أما سوريا، فيجب تقسيمها، كحال إيران، إلى دولة ونظام. مشكلة سوريا الدولة مع إسرائيل حدودية، قصة أرض ومياه تريد استعادتهما. أما سوريا النظام، صاحبة العقيدة العروبية، فتنسحب مشكلتها مع الكيان العبري إلى فلسطين ولبنان، إلى «الحقوق العربية كاملة». وهنا أيضاً تؤدي الإيديولوجيا دور الضابط لبراغماتية النظام. التركيبة الداخلية المعقّدة تفرض التمسك بها. كان هذا أحد الأسباب التي دفعت الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي أدار صراعه مع إسرائيل بعد حرب 1973 بالوساطة، إلى إجهاض قمة جنيف وعدم التوقيع، رغم دخوله لعبة التفاوض التي بات واضحاً أنه شارك فيها تحت ضغط موازين دولية وإقليمية لم تكن في ذلك الحين لمصلحة سوريا. مشاركة دمشق في حرب تموز (وما نشر عنها لا يكفي لإيفائها حقها) تقاطعت فيها الخلفيات الإيديولوجية والضرورات المصلحية (كان واضحاً لها أنها ستكون الهدف المقبل لو انتصرت إسرائيل). تعديل موازين القوى الذي أفرزته تلك الحرب لمصلحة ما يعرف بـ «قوى الممانعة» هو الذي أدى إلى سلوك طريق آخر محطته الأخيرة جرى التعبير عنها بالتصريحات السورية التي ربطت أمن الجنوب اللبناني بأمن سوريا، متوعّدة إسرائيل بخيار عسكري.

إدارة الصراع والاحتمالات المتاحة

خلاصة الأمر أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد انتهى إلى المشهد التالي: إسرائيل، التي هزّت حرب تموز ثقتها بنفسها ولم ينجح عدوان غزة بترميمها كاملةً، تجد نفسها محاصرة في الشمال والجنوب بتنظيمين عسكريين، أحدهما على الأقل (حزب الله) تتعاظم قوته بما يهدّد بـ«كسر توازن القوة القائم»، بينما يسير الآخر على خطاه، في وقت تقترب فيه إيران من امتلاك القنبلة النووية، ويتعمّق فيه ارتباط سوريا بهذا المحور، بعدما اطمأنت إلى صلابته، ولمست المنافع التي حقّقتها من خلاله. علماً أن العلاقة بين الطرفين صفرية، بمعنى أن أيّ منفعة أو قوة يحقّقها أحدهما تكون على حساب الآخر، وأيّ انتكاسة تكون لمصلحة الآخر.
واقع كهذا لا يمكن السكوت عنه، من وجهة نظر إسرائيل، التي تدرك أن المضيّ فيه يعني نهايتها، لكون خاتمته ليست سوى اختلال موازين القوى لمصلحة أطراف يريدون «إزالة إسرائيل عن الخريطة». حال تجد تعبيراتها، كما سبق أن أسلفنا، بمجرد تحقّق هذا الاختلال ولو في الوعي فقط، من دون تجربته ميدانياً على الأرض. شرق أوسط تميل فيه الكفة إلى مصلحة قوى الممانعة ستجد إسرائيل نفسها فيه تتآكل شيئاً فشيئاً. ستضطر إلى تقديم تنازلات ستنتهي في نهاية المطاف إلى تسوية من نوع ما، تُفقدها هويتها الصهيونية، ومبرّر وجودها، وبالتالي زوالها كـ«وطن قومي لليهود».
أما مواجهة هذا الواقع فتجري عبر مروحة من الأدوات، الدبلوماسية والاستخبارية والأمنية والإعلامية والمالية والعسكرية، صلاحية كل منها تحدّدها نجاعتها بالتوزاي مع دقات عقارب الساعة النووية الإيرانية، بمعنى أنه كلّما قصرت المهلة التي يقدّر أن طهران قادرة على تفجير القنبلة خلالها، تزايد الميل إلى الخيار العسكري وبالعكس.
محاولة المعالجة العسكرية على طريقة الدومينو فشلت عند الحجر الأول في تموز 2006، تلاها إجهاض لتحقيق الغاية نفسها من الداخل في أيار 2008. الرهان على تغيير داخلي في سوريا سقط بدوره في أواخر 2007، وعلى إخراجها من محور الممانعة أُجهض مع عدوان غزة، وتكرّس مع تصريحات الوزير وليد المعلم في شباط 2010.
بقي حصان وحيد لا يزال البعض في إسرائيل وأميركا يراهنون عليه ما قبل بلوغ نقطة اللاعودة عن الخيار العسكري، ألا وهو تغيير سلوك النظام الإيراني (عبر العقوبات) أو تغييره (عبر دعم المعارضة الجديدة)، مع ربط الخيارين بعضهما ببعض. رهان يبدو هو الآخر آيلاً إلى فشل، لأسباب متعددة يتقدّمها الصراع، العلني والمتستر، بين القوى العظمى في العالم، والتكالب على الثروات (النفطية) لإيران وسوقها الاستهلاكية، وهشاشة تلك المعارضة، التي فاقمتها مجموعة من الأخطاء والهفوات والارتباطات، والدعم الخارجية لها.
ذلك كله يشير إلى تزايد احتمالات المخاطرة بمغامرة عسكرية مع كل ثانية تمر على عمل أجهزة الطرد التي تخصّب اليورانيوم الإيراني، ومع كل شحنة صواريخ تصل إلى حزب الله أو «حماس».

كوابح المغامرة والخيار الشمشوني

لكنّ مغامرة كهذه دونها كوابح لا تحجب حتميتها (في ظل إخفاق الخيارات الأخرى)، يتقدمها مستوى الردع الذي حققته «جبهة الممانعة»، والذي قلّص احتمالات «معقولية» النصر عند الجانب الإسرائيلي. نصر بات معروفاً أن قادة إسرائيل (وهي، خلافاً لدول العالم أجمع، عبارة عن جيش يمتلك دولة، لا العكس) يريدونه «واضحاً وحاسماً ولا لبس فيه»، على قاعدة أن الكيان العبري الذي لا يتحمل هزيمة واحدة (بحسب بن غوريون)، ما عاد بعد تموز 2006 يتحمل ولو نصف هزيمة.
الخيار الأخير شمشوني الطابع يدفع بالمنطقة نحو معركة أرماجيدونية
هناك أيضاً ارتفاع احتمالات الانزلاق إلى حرب شاملة، مهما تكن الجبهة التي ستتعرض لعدوان، بل بالأحرى حتمية هذا الانزلاق الناتج من ربط الجبهتَين (لغايات ردعية حالياً) السورية واللبنانية، وترابطها مع الجبهة الإيرانية وبالعكس: توجيه ضربة إلى حزب الله لن تجرؤ إسرائيل على القيام بها ما لم يكن لديها تقديرات موثوق بها (من وجهة نظرها) بحتمية تحقيق النصر، ما يعني أن عدوانها سيكون من الضخامة بمكان يجبر سوريا على دخول المعركة مباشرةً لصدّه فيتوسّع نطاق المعارك كحال بقعة الزيت. أو توجّه ضربة إلى إيران، التي سيكون ردّها شاملاً يبدأ من العراق والقواعد الأميركية في الخليج، ولا ينتهي بإسرائيل، وهنا أيضاً يبدأ تأثير بقعة الزيت. السيناريو نفسه سيتكرر إذا وُجّهت الضربة الأولى إلى سوريا، فيما الإمكان لا يزال متاحاً، على ما يبدو، لتعرّض غزة لعدوان لا يرقى إلى الحرب الشاملة.
وهناك ثالثاً حال الراعي الأميركي من ناحية الاستعدادات العسكرية والالتزامات الحربية على جبهات القتال الأخرى (العراق وأفغانستان)، ومن ناحية تقديره لمستوى المخاطر (على مصالح الولايات المتحدة وأمنها) وهي تختلف بالتأكيد عن تقديرات إسرائيل لتداعياتها عليها، وحساب تكاليف كل من الخيارات والمقارنة بينها وبين الأرباح المتوقعة واحتمالات الخسارة وتداعياتها، ورؤيته للسيناريوهات البديلة، إضافةً إلى استعداده لخوض غمار مغامرة عسكرية كبرى لمصلحة الكيان العبري في ظل تقديره بإمكان التعايش مع أخطار كهذه، فضلاً عن الوضع السياسي الداخلي الأميركي، ومصالح جماعات الضغط وأولويات الإدارة على المستوى العالمي ونتائج المعالجة الاقتصادية للأزمة المالية الأخيرة...
خلاصة القول إن الوضع في المنطقة يتجه، في حال عدم حصول كوارث غير متوقعة، نحو أحد طريقين: إمّا أن تنجح المعادلة الردعية المفروضة وتضارب المصالح «الإمبريالية» بالحفاظ على الوضع القائم، وإدارة الأزمة بأدوات لا ترقى إلى المواجهة العسكرية، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعديل جذري في موازين القوى لغير مصلحة إسرائيل، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات عليها وعلى التسوية المزعومة معها. أو أن تصل الأمور بعسكر إسرائيل (وأميركا) إلى قناعة بأن الوضع بات من الخطورة بمكان أصبح فيه الخيار العسكري واجباً، ولو كان غير عقلاني. خيار شمشوني يدفع بالمنطقة نحو معركة أرماجيدونية ليس واضحاً ماهية التركيبة التي ستخرج من تحت أطلالها.


العصر الإيراني

الصراع مع إسرائيل يبدو أنه يدخل جولاته الأخيرة. جولاتٌ الحرب فيها مرجّحة، لكن الحسم يبدو حتمياً.
فوز الكيان العبري فيها سيكرسه سيداً على المنطقة حتى إشعار آخر قد لا يأتي. وهزيمته ستكون إعلان زواله.
هي حكاية نكبة حدثت في أربعينيات القرن الماضي تلامس خاتمتها. حكاية سيعيد المنتصر كتابتها، حسبما تفيد التجارب التاريخية. هل يعلم أحد ما هي السيرة التاريخية التي كانت ستعمَّم فيما لو ربحت ألمانيا وإيطاليا واليابان الحرب العالمية الثانية، أو ربح السوفيات الحرب الباردة؟
بل أكثر من ذلك، هي نهاية ستكرّس المنتصر نموذجاً يُقتدى به. أبلغ شاهد على ذلك نزعة الأمركة التي اجتاحت المعسكر الاشتراكي مع انهيار الاتحاد السوفياتي؛ عشق الليبرالية الذي اجتاح الجمهوريات السوفياتية السابقة والهرولة نحو أوروبا والأطلسي.
مهما يكن من أمر، لا بد من الإقرار بأنه إذا كانت خمسينات وستينات القرن الماضي مصرية، والسبعينات سعودية والثمانينات عراقية والتسعينات أميركية، فإننا اليوم في العصر الإيراني.