عاد الازدحام إلى مبنى مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين في بشارة الخوري. «العجقة» الحاصلة هذه الفترة في المبنى بسبب إلغاء عمل السماسرة وقلّة الموظفين وبدء الطلاب الفلسطينيين بتجديد أوراقهم الثبوتيّة للامتحانات الرسميّة
قاسم س. قاسم
«أنا معي حقّ أكتر منّك، اوقفي ورا عم قلّك، إنتي هلق جيتي»، يصرخ عنصر قوى الأمن الداخلي بالسيدة الخمسينية التي حاولت أن تعود إلى مكانها في الصف الطويل من المنتظرين أمام مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين في منطقة بشارة الخوري. «أنا هون من التسعة الصبح يا وطن، كنت بدخن سيجارة برّا» ترد عليه، وهي تشير إلى علبة السجائر في يدها كإثبات على ما تقوله. «عم قلّك ارجعي لورا يعني بترجعي لورا، اوقفي آخر الصف، لشوف»، يصرخ بها هذه المرة بنبرة أعلى. ثم يضيف وهو يشير بإصبعه لآخر الصف «أنا هون لرتّب صفوفكم، اوقفي ورا، يعني بتوقفي ورا، يلّا». يتدخل الموجودون الذين استفزتهم طريقة معاملة عنصر الأمن للسيدة. تتولى النسوة تهدئة المرأة التي بدأت بالبكاء، بينما يعمل رجل على تهدئة عنصر الأمن، طالباً منه «امسحها بدقنّا يا وطن، الحجّة قد إمّك». بمثل هذه المشاهد، عادت أزمة الزحمة والتأخير في إصدار الهويات في «الشؤون» كما يسمّيها اللاجئون الفلسطينيون، للظهور مجدداً. لا يعرف الناس في المديرية السبب الرئيسي «للعجقة»، أو لماذا يتم تأخير إصدار هوياتهم الجديدة. الشيء الوحيد الذي يعرفونه هو أنهم هنا، والوقت يمر ثقيلاً: دقائق تتحول ساعات، وساعات الانتظار تتحول إلى أيام. لأنه إذا لم توفق في الدخول الى مركز تقديم الطلبات في اليوم الأول لزيارتك المديرية، فأنت مضطر إلى الحج إليها مجدداً. السبب الحقيقي لهذه الأزمة غير واضح تماماً، يقول بعض المخاتير من متابعي شؤون مديرية الشؤون إن «المدير (بالوكالة) منع عمل السماسرة في المديرية، ما سبّب هذه الزحمة»، يضيف: «كما أن اقتراب موعد الامتحانات دفع بأعداد كبيرة من الطلاب لتجديد هوياتهم». البعض الآخر يرى أن الأزمة سببها «التعيينات الإدارية التي ما يزال ملفها عالقاً في زواريب السياسة اللبنانية، فحتى الآن لم يعيّن مدير عام للمديرية وجميع من مرّوا عليها في السنوات الماضية كانوا بالوكالة عن الأصلي».
فجأةً، يعلو صوت صراخ سيدة، لكن مصدره هذه المرة أبعد قليلاً، من الطبقة الثانية في المبنى. الطبقة الثانية يعرفها أغلب الفلسطينيين. فهو المكان الذي توجد فيه سجلاتهم المهترئة، وهو أيضاً المكان الذي يتم تحويلهم إليه في حال رفض طلباتهم للحصول على أوراقهم الثبوتية (الأخبار عدد 885). يعلو الصراخ أكثر «إلي من الساعة 9 هون. الله ما بقولها إنو ينرفض طلبي لأن الدفاتر عندكم مخزّقة» تقول. يقترب صوتها أكثر فأكثر من المدخل كلما نزلت طبقة، «يمين بالله، لو عم بطالب بهوية إسرائيلية كانوا عملولي ياها وطلّعوها أسرع من إني طلّع هويتي الفلسطينية بلبنان» تقولها بغضب. تخرج السيدة من المبنى، تقف على بابه. يلفتها منظر السيدة الستينية المتكئة على الباب. «قديش الساعة معك يا حجّّة؟»، تسأل. «12 إلا عشرة يا بنتي»، تجيب. «من أي ساعة إنت هون يا حجّة»، تسأل مجدداً. «من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الآن لم أستطع الدخول ولا أزال أنتظر دوري» تقول. «اتكلي على الله وارجعي على بيتك بلالك هالبهدلة». يتدخل رجل الأمن ويطلب من المرأة الغاضبة الرحيل، «بلا هالحكي يلّي بلا طعمة، خلص ما بقا عندك شغل هون ارجعي على بيتك». يضيف «أين سفارتكم والممثلون عنكم؟ اطلبوا منهم أن يضغطوا على الدولة للعمل على تحسين وضعكم في المديرية: شو مفكرينّا مبسوطين هيك!»، يقول.
مشروع مع «ليبان بوست» فلا يضطرّ المرء للحضور إلى المبنى
هكذا، فعل الوقت فعله في نفوس الحاضرين، إذ ازدادت حدة التوتر داخل المبنى. في إحدى زواياه يفترش كبار السن الأرض، تقطع إحدى المسنّات الكعكة لتضيّف المرأة التي بقربها، أخرى تسحب آخر مجّة من سيجارتها لتطفئها في فنجان قهوتها. في الطرف الآخر يقف بعض الشبان بانتظار دورهم، تقف بالصف بهدف تجديد هويتك. يقف رجل قوى الأمن الداخلي على باب القاعة ليدخل المحظوظون فرداً فرداً، بينما يطلب منك زميله أن تقف «بالصف منيح، وفتاح طريق كرمال اللي خلّص يقدر يضهر». ترى صفاً طويلاً من المنتظرين، تسأل الواقف أمامك «من أي ساعة إلك هون؟». يجيبك «من الساعة تسعة ونص»، مضيفاً «جاي من عين الحلوة كرمال قدّم على إخراج قيد فردي وبعدني ناطر صرلي ساعة». إجابته لا تطمئنك أبداً، فهذا يعني أن انتظارك سيطول، كما يعني أن أملك بالنجاح للدخول سيخف تدريجاً وخصوصاً مع اقتراب موعد انتهاء تسلّم الطلبات أي بعد ساعة. تنتظر مع الموجودين. الصف أمامك بدأ يقصر تدريجاً، أما خلفك فإنه يطول أكثر فأكثر حتى يصل إلى خارج حدود المبنى تقريباً. خلال الانتظار لا يخلو الأمر من التدافع قليلاً أو ممن يحاول أن يتجاوزك مبتسماً أو أن تطلب منك إحدى المسنّات أن تقف مكانك لأنها «ختيارة ومرا كبيرة يا ابني». أخيراً تصل لعند الدركي، تريه المستندات المطلوبة، يطلب منك الانتظار. يدخل إلى القاعة ويخرج مجدداً. يعتذر منك ويطلب منك أن تأتي غداً لأن «الموظفين انتهوا من استقبال الطلبات اليوم». تسأله عن الوقت المناسب «يلي ما بكون في عجقة»، يجيبك «كل يوم هيك، فأنت وحظك بقا». لكن ما هو سبب هذه الزحمة في المديرية؟ ولماذا في هذا الوقت تحديداً من كل عام؟ تقصد مكتب مدير عام مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين بالوكالة العميد نقولا الهبر في وزارة الداخلية والبلديات في الصنائع. يتحدث الهبر بصراحة مطلقة عن المشاكل التي تعاني منها مديرية الشؤون. أولاً «ليس هناك مدير عام أصيل في المبنى، ما يؤثر سلباً على حسن أداء كل العاملين في هذه المديرية». يضيف «كما أن عدد الموظفين المدنيين العاملين في المديرية هو ستة أفراد، عمر كل واحد منهم أكثر من 55 عاماً، لا يعرفون العمل على الكومبيوتر ووضع بعضهم الصحي عليه بعض علامات الاستفهام». واجه الهبر هذه المشكلة، فاقترح أن «تفصل قوى الأمن 10 عناصر للمديرية لسدّ هذه الثغرة، ومن ثم ترفع كتاباً إلى مجلس الخدمة المدنية لإرسال 14 محرراً للمديرية». هكذا، لا تقتصر المشكلة على النقص بالموظفين، فالمبنى بحد ذاته مشكلة. فهو أولاً مبنى سكني يتقاسمه سكان المبنى مع موظفي مكاتب المديرية. وللعمل على حلّ هذه المشكلة تم توجيه كتاب إلى إدارة الأبحاث والتوجيه لإيجاد مبنى لائق ضمن بيروت. وعند سؤاله عن وجود مركز نفوس واحد فقط لإدارة شؤون الفلسطينيين في كل لبنان، يقول الهبر إن هناك مشروعاً مع شركة «ليبان بوست» لتأمين خدماتها لمن يرغب دون اضطرارهم للحضور الى المبنى». هكذا، تحاول وزارة الداخلية العمل على تذليل العقبات التي تواجه مديرية الشؤون، فهناك مشروع «لمكننة قيود الفلسطينيين وإصدار بطاقات خاصة ممغنطة، كما أن هناك تعميماً للعاملين في مديرية الشؤون لمعاملة الإخوة الفلسطينيين مثل اللبنانيين تماماً» كما قال الهبر. يبقى أن يقنع العنصر الأمني على المدخل بذلك.


أُلغي عمل السماسرة داخل المديرية من أجل «قطع دابر تقديم الرشوة للموظفين، كما عوقب المرتشون من الموظفين» يقول مدير عام وزارة الداخلية نقولا الهبر. وقد سُهّل «عمل المخاتير لتطبيق ما يتم تطبيقه في دوائر نفوس اللبنانيين». يضيف إن «أغلب المعاملات تنجز خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، وخصوصاً الحالات الطارئة، مثل معاملات لأجل الطبابة والطلاب». من جهة أخرى، رفع وزير الداخلية كتاباً إلى وزير التربية ليوافق على اعتماد بطاقة الهوية لمدة ثلاث سنوات بدلاً من تجديدها كل عام لتخفيف الضغط عن مديرية الشؤون.