علامة «صنع في فلسطين» أو «MADE IN PALESTINE» قد لا تكون متوافرة بكثرة في الأسواق العربية أو الغربية، لكنها موجودة وقائمة رغم الظروف الاحتلالية القاسية والاتفاقات الفلسطينية المجحفة. صناعة تكافح للبقاء بما تيسّر من مواد أوليّة وطبيعية وخبرات متراكمة منذ مئات السنين
القدس المحتلة ــ أسامة العيسة
على شارع القدس ـــــ الخليل، أحد أهم الشوارع الفلسطينية الذي قطعه الاحتلال الإسرائيلي ولم يبقَ منه إلا الاسم، بقيت بناية قديمة صامدة تحتضن مصنع عرق، هو الأقدم في فلسطين. حافظت عائلة صابات على استمرار تشغيله، ضمن ظروف صعبة بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وتدمير الاقتصاد الفلسطيني، وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي.
ومصنع عرق صابات، ليس الصناعة الوحيدة التي صمدت في فلسطين، بجهود عائلية بالأساس، واقتصاد في مقومات الإنتاج، فمثله صناعة الصابون في نابلس، التي تتوارثها العائلات. صناعة اكتسبت سمعة إقليمية وعالمية، ولكنها واجهت وتواجه الصعوبات التي وضعها الاحتلال، والتي لا تتوقف عند مشاكل الاستيراد والتصدير، بل أيضاً من خلال البطش اليومي.
ويطلق المتفائلون على نابلس لقب العاصمة الاقتصادية للضفة الغربية، لتميّزها بأنواع عديدة من الصناعات التي أُسست قبل الاحتلال واستمرت بعده، إلّا أن هذا الوصف قد يكون مبالغاً فيه كثيراً، فالداخل إلى مدينة نابلس، يشعر كأنه دخل إلى مكان خرج لتوّه من الحرب، من كثرة تعرّض المدينة للاقتحامات والتدمير.
معالم تدميريّة تظهر في البلدة القديمة، حيث العديد من المصانع، التي تعدّ رمزاً لقصة صمود فلسطينية في هذه المدينة المحاصرة. ومن الصناعات التي بدأت قبل الاحتلال، ولا تزال تحرز تقدماً، صناعة السجائر. والحديث يدور عن شركة سجائر القدس، التي صمدت في مواجهة الشركات الإسرائيلية، بنوعية منتجاتها وتعدّدها، وسعرها المنافس. وأخذت منتجات هذه الشركة دفعة مهمة خلال الانتفاضة الأولى، مع إعلان مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، لكنها تعاني الآن المنافسة بسبب ارتفاع أسعارها.
ارتفاع أدى إلى جدل في أوساط الرأي العام، ولا سيّما أنه مرتبط بالضرائب التي تفرضها السلطة على السجائر الفلسطينية. السلطة تتذرّع بأن الضرائب موازية لما فُرض على السجائر الإسرائيلية، بناءً على ما تفرضه اتفاقية باريس التي تنظّم العلاقة الاقتصادية بين السلطة وإسرائيل.
لكن مصادر في الشركة الفلسطينية أكدت لـ«الأخبار» أن نحو 87 في المئة من قيمة منتجات السجائر تذهب كضرائب للسلطة، وهو أضعاف ما تفرضه السلطة على السجائر المستوردة.
وتنتج الشركة سبعة أنواع من السجائر، ويساعدها على الصمود، أنها الشركة الفلسطينية الوحيدة، بعد إغلاق شركة سجائر بيت جالا، التي انهارت في مواجه المنافسة، ومصاعب الاحتلال العديدة.
وتعدّ صناعة الحجر والرخام في فلسطين، التي يطلق عليها «الذهب الأبيض»، الأشهر عربياً وعالمياً من باقي الصناعات الفلسطينية، رغم ما واجهته وتواجهه من صعوبات، أدت إلى إغلاق كثير من المحاجر.
وتصلح منطقة «صُلَيّب» التابعة لمدينة بيت جالا مثالاً على ذلك. المنطقة اشتهرت بحجرها الوردي، ولكن الاحتلال سيطر عليها، وضمّها إلى حدود بلدية القدس، وأصبح اسمها «جيلو»، ليقضي بذلك على صناعة استخراج الحجر منها التي استمرت أكثر من ألفي عام.
وتمثّل مساهمة قطاع الحجر والرخام في فلسطين 45 في المئة من الناتج الصناعي، و60 في المئة من إجمالي الصادرات، ويشغّل هذا القطاع 30 ألف عامل، وتسهم فلسطين بنحو 1,8 في المئة من الإنتاج العالمي، وهو ضعف الإنتاج الألماني ونصف الإنتاج التركي و70 في المئة من الإنتاج الأميركي.
هذا النجاح يرّد إلى الخبرة المتراكمة، وتنوّع الحجر الفلسطيني من حيث الألوان والخصائص، إضافةً إلى الأهميّة الروحية الدينية لمستخدميه في الخارج، لكونه من إنتاج «الأراضي المقدسة». وكثير من المطارات والكنائس والمراكز التجارية والمباني في جميع أنحاء العالم مبنيّة ومرصوفة بالحجر والرخام الفلسطينيين.
ويتعرض هذا القطاع لهزات قوية، مثل حرب الخليج الثانية، وإغلاق أسواق الخليج في وجه منتجاته. كما أنه كان لانتفاضة الأقصى أثر في هذا الإنتاج، ولا سيّما أن نحو 60 في المئة من الإنتاج يسوّق في إسرائيل، ونسبة كبيرة منه تصدّر إلى الخارج باسم مصدّرين إسرائيليين.
وخلال الأعوام الأربعة الأخيرة تعافى هذا القطاع ببطء، لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل انتفاضة الأقصى، وأصبح بعض رموز هذه الصناعة، مثل رجل الأعمال نصار نصار، من المؤثرين في سياسة حكومة سلام فياض الاقتصادية، ومؤشراً على تحالف رأس المال والسياسة في الأراضي الفلسطينية، الذي لم يحدث بهذا القوة في التاريخ الفلسطيني الحديث.
وفي شهر آذار الماضي، احتفل فياض بمرور 25 عاماً على تأسيس شركة نصار لصناعة الحجر، وألقى خطاباً في قصر نصار المهيب، وتناول الغداء مع بضع عشرات من المدعوين، الذين يمثلون النخبة الاقتصادية والسياسية والأمنية في الأراضي الفلسطينية، وممثلي القنصليات الأجنبية.
وتحدث فياض، كرجل اقتصاد أكثر من كونه رمزاً للسلطة التنفيذية، حاثّاً رجال الأعمال على المزيد من الضغط على السلطة، التي من المفروض أنه يمثّلها، لسنّ قوانين تحسّن من البيئة الاستثمارية.
ويصدّر نصار منتجاته من الحجر والرخام تحت اسم (حجر القدس) إلى 37 دولة في العالم، ومن أسباب نجاحه توسيع عمله والاستثمار في الخارج في كل من سلطنة عمان والأردن.
ولكن حال نصّار لا يمكن إسقاطها على جميع العاملين في هذا القطاع، حيث تمثّل بلدة بيت فجار جنوب الضفة الغربية أبرز مثال على معاناته. بيت فجّار تضم وحدها 250 مصنعاً للحجر (من أصل 600 مصنع في فلسطين)، يشكو أصحابها من احتكار التصدير، مباشرةً أو عبر إسرائيليين، لأناس معينين، ما أدى إلى إغلاق 50 مصنعاً في البلدة، التي تحيط بها المستوطنات الإسرائيلية. وتتعرّض دائماً لمداهمات جيش الاحتلال، التي لا تقتصر على الاعتقال أو تدمير المنازل، بل تشمل أيضاً مصانع الحجر، حيث تصادر قوات الاحتلال معدات وآليات وتعتقل أصحابها بحجّة التهرّب الضريبي، وهو ما يضيف سبباً مهماً إلى المعاناة، في ظل أوضاع سياسية معقّدة، لا يعرف فيها صناعيو البلدة الجهة المسؤولة عنهم.
وتزدهر بعض الصناعات الفلسطينية نسبياً، لكونها صناعات من الباطن لجهات إسرائيلية مثل صناعات الملابس، والنسيج، والخياطة، والملابس الداخلية. وتعمل هذه المصانع لمصلحة منتجين إسرائيليين، يستفيدون من رخص العمالة الفلسطينية. ولا يخلو هذا القطاع من مصانع ألبسة تراهن على جودة منتجاتها مقارنةً بالبضائع المستورة، وخصوصاً الصينية والتركية، وغيرهما التي غزت الأسواق الفلسطينية، وأدت إلى إغلاق العديد من المصانع.
وقال مدحت أبو عيطة، الذي كانت عائلته تملك أحد أكبر مصانع النسيج في الأراضي الفلسطينية قبل إغلاقه نهائياً، «كان من الصعب علينا الصمود في وجه الإجراءات الاحتلالية، وغزو الصناعات الصينية». وفي مكان المصنع، افتتح أبو عيطة معرضا

87% من قيمة منتجات السجائر تذهب ضرائب وهي أضعاف ما تفرضه السلطة على السجائر المستوردة

تمثل مساهمة قطاع الحجر والرخام 45% من الناتج الصناعي، و60% من إجمالي الصادرات

باسم «كل شيء بدولار»، يبيع منتجات صينية وتركية وغيرها.
وخلال السنوات الماضية، افتتحت في الأراضي الفلسطينية مصانع لمنتجات اللحوم، بعضها استفاد من الأجواء التي صاحبت صعود الإسلام السياسي في فلسطين، فأطلقت على نفسها أسماءً إسلامية، لاستقطاب قطاعات أوسع من مستهلكي المنتجات الإسرائيلية، وهي تعمل في ظروف صعبة، وفي ظلّ تحكم الجانب الإسرائيلي في المواد الخام، مثل الدجاج ولحم الحبش (الديك الرومي)، حيث يفرض الاحتلال حظراً على إنشاء مصانع من هذا النوع، بمواصفات إنتاجية في الأراضي المحتلة.
ويبدو أن مصنع البيره الوحيد في فلسطين، الموجود في قرية الطيبة، شرق رام الله، حاول هو الآخر الاستفادة من نفس الأجواء، فأطلق قبل فترة وجيرة منتجه من البيرة الخالية من الكحول، لمنافسة المنتجات الألمانية والأجنبية في السوق الفلسطينية.
وتنتشر صناعات التنظيف والغسيل التي تضم أنواعاً من الشامبو والكريمات وغيرها، في السوق الفلسطينية، بسبب رخص ثمنها، وإن كان هناك شكوك كبيرة في جودتها، وعدم معرفة المواد الكيماوية التي تُصنع منها، وضعف الرقابة عليها، وكثير منها يحمل أسماءً لماركات عالمية، ويغفل اسم المصنع أو مكانه. وفي ظل الفوضى في السوق الفلسطينية، من الصعب تنظيم هذا القطاع.
وكثير من العاملين فيه، وفي غيره من المصانع التي تتخذ عادةً بيوت الدرج أو مخازن أسفل العمارات السكنية أمكنة لها، تقع حوادث العمل، وأشهرها ما حدث في مصنع للولّاعات في مدينة الخليل، قبل سنوات وأدى إلى مقتل وجرح العشرات من العاملات الفقيرات.


فيّاض وخط الفقر

يرغب رئيس حكومة تسيير الأعمال الفلسطينية، سلام فياض (الصورة)، في أن يقدم نفسه، منجزاً لما يسمّيه الهدوء الأمني والاستقرار، عن طريق المنجزات الاقتصادية، وتحالفه مع قطاع الأعمال الفلسطيني، رغم حقيقة واقع الاقتصاد الفلسطيني وظروف الاحتلال المتحكمة فيه، واستئثار إسرائيل بنحو 89 في المئة من التجارة الخارجية الفلسطينية، وفقاً لإحصاءات وزارة الاقتصاد الوطني. ما يزيد علامات السؤال، حول هل يمكن فعلاً بناء اقتصاد في ظل احتلال؟ أو إيجاد سلطة وطنية في ظل احتلال؟ ولكنّ فياض لا يأبه بمثل هذه الأسئلة، فيكثر من حضور المناسبات والمؤتمرات التي تغطّى بكثير من البهرجة الإعلامية، التي لم تتمكّن من إغفال حقيقة أن نحو 40 في المئة من الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر، وحلم التحرير يتضاءل.