لعلّ التوصيف الأكثر دقة لما يجري في عدن وبعض مناطق الجنوب هو «الفوضى»، فيما بات الحكام الفعليون الذين يقودون الناس في المحافظة الجنوبية، هم «الأمراء». كل حيّ تحوّل الى إمارة، تطبّق فيه الحدود وفقاً للشريعة، بحسب معتقد تنظيم «القاعدة»، أي «بالتدريج»، على خلاف تطبيق «الدفعة الواحدة» السائد في سوريا والعراق.
شخصية جنوبية أفادت «الأخبار» بأن النسيج الاجتماعي والقبلي اليمني إلى جانب التجارب الفاشلة للتنظيم في بعض الدول العربية، فرض عليه تقييم التجربة والبحث عن طرق هادئة لكسب الناس أو الابتعاد عن سخطهم والانتقال التدريجي في تطبيق مفهوم «القاعدة»، وصولاً إلى التطبيق الكامل عندما تحين الفرصة.
ومثلما هو معروف، يعتمد «القاعدة» ومشتقاته في اختيار أهدافه، بحسب الأولوية، الهدف القريب والسهل، بغية التأثير في الوضع النفسي للخصوم من خلال بث الرعب والهلع، فيسهل التعامل مع الأهداف البعيدة والصعبة. وبناءً على هذه النظرية، بدأت الجماعات المتطرفة تستهدف كل معالم عدن ذات الطابع الديني، مهددةً بذلك التعايش والسلم الاجتماعي اللذين تتميز بهما المدينة منذ زمن بعيد.
في هذا السياق، جاء إحراق تنظيم «الدولة الاسلامية ــ ولاية عدن» كنيسة «القديس جوزيف» الكاثوليكية في كريتر، وهي الكنيسة الأقدم في المدينة. وأقام التنظيم قبل إحراقها استعراضاً بأكثر من 30 دراجة نارية رافعين رايات تنظيم «داعش» وشعاراته.
وأقدم عناصر من «القاعدة» في عدن، الأسبوع الماضي، على اقتحام مسجد الزاوية الأحمدية في منطقة الشيخ عثمان، واعتقلوا 150 شخصاً تابعين للطريقة الصوفية، لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن.
القيادات الجنوبية، لا سيما في الحراك الجنوبي، يتقلص دورها وحضورها شيئاً فشيئاً، فيما تعقد اجتماعات متكررة تحاول فيها إيجاد دور فعلي لها وسط ازدحام المجموعات المسلحة والعصابات والفوضى، ولكن من دون جدوى. وقد أفاد أحد قيادات الحراك الجنوبي «الأخبار» بأن الحال مع المجموعات المتطرفة في عدن وصلت إلى طريق مسدود، وتحدث بألم عن بشاعة أعمال السلب والنهب وما سمّاه «البلطجة والفوضى»، والسيطرة على المؤسسات الحكومية من قبل المحسوبين على «القاعدة» و«الإصلاح»، آسفاً لأن الجنوب، ولا سيما عدن، يتجهان بسرعة إلى «النموذج الليبي».

اختفاء 100 مدرعة إماراتية كانت قد سُلّمت للفصائل المسلحة الجنوبية
وكشف المسؤول الحراكي أن دولة الامارات سلمت الشرطة مئات السيارات، غير أنها سرعان ما أصبحت في أيدي العصابات المنظمة، فيما كان لافتاً اختفاء 100 مدرعة إماراتية كانت قد سلّمت للفصائل المسلحة. وحذرت جهات عسكرية في عدن من مغبة إخفاء المدرعات، مشيرةً إلى أنها مجهزة بنظام «جي بي أس» عبر الأقمار الاصطناعية ويمكن تحديد مكانها.
ولا يمكن تأكيد ما إذا كانت هذه الفوضى صنيعة دول العدوان، أو أن الوضع خرج عن سيطرتهم، لكن المؤكد أن قوات الاحتلال تتعاون مع «القاعدة» في جبهات القتال بمواجهة الجيش و«اللجان الشعبية». كذلك فإن «القاعدة» يتمدد بسرعة من دون اعتراضه أو الحد من سرعة انتشاره وتمدده من قبل قوات التحالف أو المجموعات المنضوية تحت إدارتها، خصوصاً مناصري هادي.
وسط هذه الأجواء، وصل رئيس وزراء الرئيس الفار هادي، خالد بحاح، إلى عدن، أول من أمس، في ظل تردّي الأوضاع الأمنية والسياسية وسيطرة «القاعدة» وباقي التنظيمات المتطرفة على معظم مدينة عدن وباقي مدن الجنوب اليمني.
أوساط مراقبة اعتبرت عودة بحاح انتقالاً للصراع بينه وبين هادي من الرياض الى عدن حيث يتحالف الأخير مع «الاصلاح» والجماعات المتطرفة، بينما يعتبر بحاح في المقلب الآخر المناهض لـ«لإخوان المسلمين» والقريب من دولة الامارات.
بدأ هادي يشعر بأنه خارج التسويات، خصوصاً أن النصوص الأخيرة لمبادرات الأمم المتحدة تضمنت عودة «الحكومة الشرعية» وليس «الرئيس الشرعي». كذلك فإن الرعاة الإقليميين أطلقوا أبواقهم الإعلامية ضده، واصفين إياه مع عدد من الشخصيات بأنهم هم الذين تسببوا في الأزمة.
وتم تسليط الضوء على ابن الرئيس الفار، جلال، من قبل الاعلام الخليجي والغربي، بوصفه «الثقب الاسود» الذي ابتلع معونات الخليج والسعودية خلال فترة الحرب، بحسب صحيفة «فورين بوليسي» الاميركية. هذا الوصف يأتي مباشرة بعد وصول بحاح عدن، بعدما حوّل جلال الحكومة إلى مزارع خاصة تتحكم في المشاريع والمقاولات العمرانية الجارية بالتعاون مع شركاء موصوفين بالفساد والبلطجة. ويُتهم ابن هادي بإنشاء دولة داخل الدولة، واستولى قسرياً على مقاولات بناء القصور، وشكّل أجهزة أمنية واستخباراتية وعسكرية خاصة بعيداً من سلطة حكومة بحاح، وهو يشرف على ميليشيا قبلية، ويشتري السيارات كهدايا للمقربين والمتزلفين، ويشتري الذمم بالترهيب والترغيب، ويموّل صحفاً ومواقع إلكترونية وتواصل اجتماعي، ويقال إن شركات اتصالات الدولة (الثابت والنقال والانترنت) تمر من خلاله، والبعض يؤكد أن لجلال أسهماً فيها. كذلك فإن بصماته واضحة على التعيينات الدبلوماسية والعسكرية والمدنية.
وكان جلال قد اتهم سابقاً أثناء وجوده في «صنعاء» بالشراكة مع آل الأحمر بالفساد واستغلال سلطة والده وإقامة شركات تجارية واستثمارية، وقد صدرت اتهامات بشأنه بالأدلة والوثائق تدينه بالفساد وإساءة الامانة واستغلال السلطة.
يبدو أن خالد بحاح سيكون في مواجهة مباشرة مع حلفائه وشركائه في الحكومة المدعومة من قبل تحالف العدوان، وهو سيواجه على جبهتين: الاولى، عليه أن يحسم فيها الصراع مع الرئيس الفار هادي الممسك بكل المعونات والمقدرات من خلال نجله. أما الثانية، فستكون مع «القاعدة» والمجموعات المتطرفة و«الاصلاح». يبقى الاستحقاق الأبرز هو تدهور الوضع الأمني في عدن، حيث تتبادل أطراف العدوان الرسائل بالدماء.