عام بعد عام، تمر الأيام وتعود الذكرى لتفتح في قلوب أصحابها جرحاً لم يندمل. طال الزمن منذ 62 عاماً وبقيت القلوب تنزف حباً وحنيناً لأرض فارقوها مرغمين. جيل النكبة في تناقص مستمر. يموت الشهود ليحمل لواء العودة جيل شاب عشق الوطن عن بُعد ونشأ على حكايات الآباء والأجداد، عن البيارة وكروم العنب والزيتون وآلام النكبة والتهجير. يتعاقبون على حفظ حقوقهم وفهمها في تحدّ لكل محاولات الطمس والتزوير. مهمات قد ترهق أجساداً هي أصلاً متعبة بفعل الحروب والحرمان والحصار. إلا أن الحق يصرّ على مؤازرتهم في كل لحظة. فما أخذ منهم بالقوة لا بد من أن يستردّ يوماً ما. ومن انتظر كل هذه السنوات، لن يمانع في انتظار غيرها
غزة ــ قيس صفدي
من قرية «كرتيا» المدمرة، شمال شرق مدينة غزة، تنحدر أصول أم حسن التي تسكن اليوم مخيم رفح للاجئين، جنوب قطاع غزة. مسافة طويلة تفصل بين ذكريات الطفولة وأمنيات الشيخوخة لطفلة كانت تلهو في فناء منزلها وتشترك في أحلامها مع فتيات جيلها، وبين امرأة عجوز نال منها الزمن، وكل أملها في الحياة أن تعود ذات يوم إلى مسقط رأسها، أو يتحقق حلم العودة لأبنائها وأحفادها.
تتحدث مريم المغاري «أم حسن» (77 عاماً) عن قريتها بفخر وبساطة. تقول: «كرتيا» في عيني «أحلى مكان بالدنيا، فيها ولدنا وتربينا. كنا نلعب صغاراً حول الأشجار. كانت أجمل سنوات عمري، لأن جميع السنوات بعدها تعني باختصار ألماً وتشريداً وعذاباً. لا أزال أذكر ذلك اليوم المشؤوم عندما حضر زوجي وكنت في الرابعة عشرة من العمر، وأخذ يجمع ما في المنزل من متاع بسيط وأخبرني بضرورة الرحيل عن القرية. لم أدرك وقتها حقيقة الأمر. كل ما سمعته أن العصابات الصهيونية تهاجم المدن والقرى وترتكب المجازر. لم أكن أعلم أن الهدف هو سلبنا منازلنا وأراضينا وممتلكاتنا».
وتتذكر «أم حسن» بكثير من الألم والمرارة تلك الليلة التي قطعت فيها برفقة زوجها وأهالي القرية مسافات طويلة بمحاذاة ساحل البحر للنجاة بأنفسهم من القتل. وتقول «قضيت مع زوجي ليالي عدة على شاطئ البحر. كانت رحلة طويلة وشاقة، أدمت أقدامنا ونحن نسير على أرض ملتهبة والفزع يتملكنا. وكاد الخوف يقتلني على طفلي الرضيع حسن الذي لم يتجاوز وقتها الأربعة أشهر. كان يبكي طوال الطريق من دون أن تكون هناك فرصة للتوقف لأرضعه».
أغانٍ وأهازيج للأفراح ولكثير من المناسبات غنّتها أمّ حسن في ثنايا حديثها عن النكبة، كأنها جزء من الرواية. تذكرها وتغنّيها وتعلّمها لبناتها وزوجات أبنائها. تحتفظ بثوب عرسها وقد نذرت أن تلبسه يوم عودتها إلى «كرتيا» لأنه سيكون بالنسبة إليها أجمل عرس في حياتها.
بلحية غزاها الشيب، وتجاعيد عكست معاناة السنين، يتذكر اسماعيل الجعبري «أبو عطا» قريته «جورة عسقلان»، التي هاجر منها وهو في الثامنة عشرة من عمره، هرباً من الموت الذي كانت تبثه العصابات الصهيونية في كل قرية ومدينة، ليقطن مع أسرته وأهل قريته في مخيم رفح للاجئين، جنوب قطاع غزة. يقول «دخل اليهود بلدتنا واضطررنا إلى الهجرة حفاظاً على حياتنا. ذكّرتموني بما لا أنساه أبداً. فقريتي تسكن قلبي وتسري في شراييني مع دمي الذي به أحيا، فذكريات هوائها العليل تعيش في رئتي حتى اليوم».
يحفظ الحاج الجعبري قريته عن ظهر قلب بمكانها وموقعها وتفاصيل الحياة فيها قبل النكبة. يصمت كأنه يسترجع شريط ذكرياته قبل أن يسترسل في الحديث: «كانت قرية بيت دراس هي أول قرية محيطة بنا سقطت أواخر عام 1947، ورحل أهلها إلى القرى المجاورة، وانتشرت أخبار قتل اليهود أهالي المناطق التي يحتلونها. ورغم هذا، باع الشبان المتزوجون ذهب نسائهم ليبتاعوا السلاح الخفيف، وحاولوا بما أوتوا وتحت قيادة شخص اسمه طارق بيك الأفريقي، المغربي الأصل، الدفاع المستميت عن الأرض، فأوقعوا خسائر في صفوف العدو. لكن لعدم تكافؤ القوى، سقطت مدن أخرى ووصل العدوان إلى قرية جورة عسقلان التي أخلي الرجال والنساء والأطفال منها، وبقيت أنا موجوداً مع الشباب من دون سلاح، أساعدهم في نقل المؤن وتزويدهم بالمياه. وبعد قتال دام، تمّ إحكام السيطرة على القرية وباتت محاطة بالآليات العسكرية من كل جانب، ولم يكن أمامنا سوى الانسحاب سباحة عن طريق البحر نحو غزة».
ممسكاً مفتاح بيته القديم، يكمل أبو العطا حديثه، ويقول «إذا اعتقد الاحتلال أننا سننسى بلادنا، فهذا حلم إبليس في الجنة. أنا أحاول دائماً أن أزرع في أبنائي وأحفادي حب فلسطين. أجمعهم حولي باستمرار وأحدثهم عن قريتنا وذكرياتي فيها، وأشعر بشغفهم الدائم للعودة».
وأخرج أبو عطا من حقيبة، بدت عليها آثار الزمن، أوراق ملكية الأرض (الطابو) التي احتفظ بها والده وأوصاه بالحفاظ عليها، وقال «هذا ما سأورثه لأبنائي وأحفادي. كل ما أملك في الدنيا. تثبت ملكيتهم في أرض أجدادي، وتزرع فيهم أمل العودة ذات يوم، مطالبين بأملاكهم التي سلبت واغتصبت». وأضاف «أوراق يزيد عمرها على سنوات عمري الثمانين، قضيت أكثر من ثلثيها على أمل العودة، وأعيش على أمل أننا سنعود ذات يوم».
ومن جيل النكبة إلى الأحفاد، يبدو أن أسامة المدلل (12 عاماً) حظي باهتمام خاص، فكان نصيبه أن ولد في عائلة اعتنت بتعليمه كل شيء عن وطنه وقريته. عائلة أخذت على عاتقها توريثه راية الحفاظ على الحق وحمل لواء العودة.
بكل فخر، يتحدث أسامة عن قريته الأصلية «البطاني الغربي»، ويقول «هاجر أجدادي وأهلي وكل أفراد عائلتي من القرية. لكني تشبعت بحبها بسبب أحاديث جدي وأبي عنها». ويضيف «اعتمد جدي أسلوب التشويق، وعرف أن ما تسمعه الأذن تطرب له النفس ويذوب فيه القلب. كان يشرح لي تفاصيل أكبر من عمري، يناديني وأنا ألعب مع الأطفال لأنه تذكر شيئاً لم يحدثني به من قبل عن الحياة في البطاني الغربي. وكان يكرر على مسامعي دوماً: عندما تعود إلى قريتنا سيكفيك أن تعيش في ملك هو لك وأرض لا تعرف غيرك، ولا سلطان لإنسان عليك».
أسامة ابن أسرة مستورة الحال كغالبية اللاجئين في غزة، لكنه يكره المساعدات المقدمة لهم من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا»، ويرى فيها مثل «لعبة تقدم لطفل صغير لتلهيه عن البكاء». يقول وهو يشير بيده الصغيرة إلى موقع قريته على الخريطة التي تتوسط منزله: «هنا تقع قريتي. لا نريد مساعدات، نريد حقنا بالعودة».


مشاهد وحدويّة

للمرة الأولى منذ بدء الانقسام في الساحة الفلسطينية، منتصف حزيران عام 2007، أحيت جميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركتا «فتح» و«حماس»، الذكرى الـ62 للنكبة، بمسيرة جماهيرية في مدينة غزة، غابت عنها الرايات الفصائلية وتوحّد الجميع تحت العلم الفلسطيني.
وتحقق المشهد الحلم: تشابكت أيدي قادة «فتح» و«حماس» والجهاد الإسلامي وفصائل منظمة التحرير، ومن خلفهم آلاف الفلسطينيين، في مسيرة موحدة انطلقت من ميدان الجندي المجهول نحو مقر الأمم المتحدة في مدينة غزة.
وحمل المشاركون مفاتيح منازلهم القديمة داخل فلسطين المحتلة، ومفاتيح رمزية تعبيراً عن تمسكهم بحق العودة، فيما رفع لاجئون لافتات كتبت عليها أسماء مدن وقرى مدمرة. وسلم ممثلو الفصائل مذكرة مكتوبة إلى مكتب الأمم المتحدة في غزة لرفعها إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تؤكد التمسك بحق العودة ورفض كل السياسات الإسرائيلية.
(الأخبار)