حركة احتجاجيّة لتذكّر الحقوق الضائعةوائل عبد الفتاح
لم يظهر الرئيس حسني مبارك في أول أيار هذا العام، واحتفل العمال بعيدهم على طريقتهم، ربما للمرة الأولى منذ 60 سنة.
أمس تجمّع مئات العمال أمام مقر مجلس الوزراء للمطالبة بتنفيذ قرار محكمة القضاء الإداري رقم 21606 الملزم لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بتطبيق حد أدنى عادل للأجور.
تغير اتجاه الاحتفال من مجرد «استعراض رئاسي» للعمال إلى موعد تظاهرة أو اعتصام يطالب بأحد الحقوق العمالية المهمّة. هذه إذاً خطوة مهمة، وخصوصاً مع غياب الرئيس عن الاحتفال الرسمي، وذلك، كما سرّبت مصادر سياسية، بسبب ازدحام أجندة مواعيده.
غاب الرئيس في مرة نادرة، كأن المصادفة تحمل علامات «تغيير» في تاريخ العلاقة بين «الدولة» والعمال، بعدما أرادت ثورة الجنرالات في 23 تموز تأسيس دولتها على أساس تحالف العسكر مع العمال (والفلاحين). منذ ذلك الحين (1952) تحوّل عيد العمال إلى طقس سنوي يوجّه فيه الرئيس خطاباً (تصفه الصحافة تلقائياً بالتاريخي» ويوزّع فيه المنح على العمال برعاية اتحاد نقابات عمالية تعيش معظمها تحت جناح الدولة).
الاحتفال هذه السنة لم يكن طقساً رئاسيّاً (بالمصادفة)، ولكن مناسبة لتذكّر الحقوق الضائعة (باختيار العمال) ودروس يتعلّمها المصريون مع مرور الأيام بأنّ «الحقوق لا توهب بل تُنتزع»، كما قال النقابي كمال المنوفي واصفاً رحلته من مدينته (المحلة الكبرى) حيث كان أحد قادة الإضراب الشهير في 6 نيسان 2008 إلى شارع حسين حجازي في قلب القاهرة، حيث تجمّع المتظاهرون من جهات عمالية وحزبية مختلفة.
المتظاهرون رفعوا شعارات تطالب بالحد الأدنى. وتؤكد أنّ ما يطلبونه بسيط (120 ورقة بمدنه) اي 120 ورقة من فئة المئة جنية المرسوم عليها مئذنة جامع محمد علي.
الهتافات ركّزت على المطلب، ووضعته في إطار الظلم الاجتماعي: «حد أدنى للأجور للي ساكنين في القبور... وحد أقصى للأجور للي ساكنين في القصور».
الهتاف مزاجه يساري يلعب على تفاوت الطبقات وضياع العدالة الاجتماعية. ونشّط أحد الهتافات ذاكرة الحكومة: «تذويب فوارق الأجور… هذا نص في الدستور». ولم يفت مبدعي الهتافات (حضر أشهرهم أمس كمال أبو عيطة وكمال خليل) مداعبة الشعور العام بالسخط بهتافات من نوع: «ياحكومة هز الوسط ... كيلو اللحمة بقى بالقسط»… «عمالية عمالية... ضد حكومة الحرامية». وترتفع النبرة مع هتاف يقول «سامع صوت المكن الهادر. بيقول بس كفاية مذلة».
المزاج اليساري انفرد تقريباً بالروح العامة للتظاهرة، مركّزاً على التفاوت بين القبر والقصر، ومنتقداً بيع مصر بالخصخصة، ومحرّضاً «بالروح بالدم... رزق عيالنا أهم».
ورغم أن الحضور أقل من المتوقع، فإنّ المفاجأة بالنسبة إلى الجميع هي موقف الأمن الذي اكتفى بطوق مزدوج، يتسع كلما ازدادت أعداد المشاركين، ولم تحدث الثلاثية المعتادة: الضرب والقمع والاعتقال.
اكتفى الأمن بمتابعة الخروج الآمن للمتظاهرين باتجاه نقابة الصحافيين لعقد اجتماع اللجنة التنسيقية التي تهدف إلى توحيد «حركة الاحتجاجات العمالية».
وهذا يعني أن هناك محاولات لمد شرارة بين المتظاهرين ذوي المطالب السياسية وسكان رصيف مجلس الشعب (من 6 شركات) منذ ما يقرب من شهر تقريباً، وهي خطوة متقدمة في مسار الاحتجاج من مرحلة « المطالب» إلى مرحلة أكثر تسييساً.
وهذا ما يمنح الاحتفال هذه السنة معنى أكبر من مصادفة انشغال الرئيس وارتفاع نبرات الاحتجاجات العمالية، إلى حد أصبحت معه «القاهرة مدينة الاحتجاجات»، كما وصفتها صحف أوروبية تابعت ما يحدث على سطح مصر الساخن.
المعنى جديد، حيث يستعيد المجتمع المصري المبادرة بشكل ما، ويخرج بالتدريج من عصر «ما قبل السياسة». وهذه التظاهرات لا تتحرك بحشود ترضي اليائسين من التغيير. لكنها تحقّق مكاسب صغيرة مؤثّرة.
لم يكن أحد يتخيّل أنّ العمال الذين كانوا يهلّلون للرئيس كل عيد عمال، حسب نص مكتوب من رئيس اتحاد العمال، يغيّرون «شكل» الاحتفال ويحملون الأعلام السوداء أمام البرلمان وهم يهتفون في نفس موعد الاحتفال السنوي «بلادي يا بلادي... مش بلاقي قوت اولادي».
حدث هذا في اليوم السابق لتظاهرة الحد الأدنى للأجور، والعمال النائمين على رصيف مجلس الشعب، البعيدين عن الحس السياسي، لكنهم يمتلكون قوة إرادة، ووعياً صنعوا منه رسالة رمزية حين حملوا نعشاً فارغاً يمثّل مطالبهم التي ماتت مع الزمن والقهر وعليهم الآن إعادتها من الموت.
هكذا فإن يومي 1 و2 أيار حملا رسالة واضحة: العمال لديهم ما يطالبون به. مثلاً: ربط الحد الأدنى بالحد الأقصى للأجور، وربط الأجر بالأسعار وغيرها من مطالب تتّفق عليها الحركات الصغيرة لتصبح مطالب حركة واحدة.
والدولة ليس لديها سوى الصمت والبحث عن موعد في أجندة الرئيس. لديها شيء آخر: الأمن ثم الأمن ثم الأمن. الأمن يلعب على إيقاع «اضرب مرات واسمح مرة» أو «اترك تظاهرات المطالب وامنع تظاهرات السياسة التي تطالب بتغيير النظام».
لكن حتى الأمن لا يتحرك بسهولة واضطر الحزب الوطني إلى ضبط كلامه ومحاسبة النائب الذي طالب بضرب المتظاهرين بالرصاص.
قد تكون هذه لعبة يستغل فيها الحزب الوطني سذاجة نائب ليضحي به ويقول إنه ديموقراطي. لكن ما حدث أنّ النائب خرج عن النص والمجتمع لم يسكت فكان التراجع.
إيقاع الأمن والتظاهرات سر من أسرار النظام، وخصوصاً مع ارتباك حركة التغيير وتعدد مراكزها، إلى حدود يصل فيها الغموض إلى عدم تحديد طبيعة «العمل السياسي»، هل هو تظاهرة؟ أم اعتصام، كما حدث أمس حين أعلن عن اعتصام لكن خرجت تظاهرة بدون إعلان أو تنسيق.
هكذا يرتبك إيقاع حركة التغيير بعد سنوات القمع الطويلة، لكنها تتحرك باتجاه تغييرات عميقة في قواعد اللعبة بين السلطة والمجتمع.
ربما إيقاع الحركة لا يرضي عشاق التغيير السريع، إلا أنه يفرض مزاجاً جديداً لا يخفى على كل من السلطة والمجتمع. على أيّ حال كان «عيد العمال» في مصر هذه السنة مختلفاً.