كمون
«بدي شتلة زيتون من فلسطين»، هذا هو الطلب الوحيد الذي أطالب به كل شخص لديه أقارب في الداخل مع أنني أكره الزيتون ورائحة زيت الزيتون الذي لا آكله منذ كنت في السادسة من عمري، لكن كما يقول لي حسام صلاح دائماً: «زيتون فلسطين غير شكل»!
عندما قرّرت صديقتي الذهاب إلى الأردن للالتقاء بأصدقائها الآتين من فلسطين قمت بالعديد من الاتصالات الإلكترونية مع أصدقائي من أجل إرسال (الشتلة) إلى الأردن كي تصل لي أخيراً مع صديقتي إلى لبنان. أما التخطيط فكان كالآتي: على أنهار حجازي إحضار الشتلة من الطمرة (قرية أمي قضاء الجليل ومسقط رأس أنهار) أما التربة فيجب أن تكون من حيفا، مكان إقامة أنهار الحالي على أساس أن قدم الصبية الطمراوية قد خطت في هذه المدينة الأسطورية، وأخيراً (المكاتيب) فعليها أن تُكتب بخط اليد وأن ترافق الشتلة بمحطتها الأخيرة في القدس قبل عبور الحدود باتجاه عمّان. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، هكذا لم تُرسل الشتّلة، ولم تصل المكاتيب، وبقيت متشبّثة بوعد لم يف به «خلص ما تزعلي، بس أطّلع عالأردن رح أحكي خالي يجبلك معه شتلة من فلسطين قبل ما شوفه هناك»، وعدٌ قطعه لي حسام، فهو معتاد على استقبال الهدايا التي تأتيه سنوياً من فلسطين، من كوفية إلى «ميرمية» إلى عشر ليترات من زيت زيتون! سألني «بس شو بدك بالزيتونة اذا ما بتاكلي زيتون؟!»، فأجبت: «بدي أربيها!». لكن كلامه جعلني أمعن التفكير بتاريخي مع الزيتون. هكذا أمكنني الجزم بأنني تأثرت بحادثتين، الأولى هي أنني كنت أعاني أزمة معوية في سن السادسة ولم يستطع الأطباء آنذاك اكتشاف أسباب عدم تقبُل معدتي للماء حتى! فأخذني والدي عند طبيب فلسطيني أجبرني على تناول ملعقة من زيت الزيتون (على الريق) يومياً، حتى أُصبت بردة فعل ولم أعد أطيق الزيتون ومشتقاته، مع أنني شفيت كلياً بسببه! أما الثانية فهي ليست حادثة بقدر ما هي ذكرى: فقد كان لشجرة الزيتون في حديقة بيتنا في الجنوب، تكوين غريب (وربما ذلك خيالي!) بحيث يمكنك اللعب عليها متخيلة أنها مركبة فضائية! فأغصانها لولبية الشكل، وفضاؤها مكشوف بحيث تستطيع رؤية النجوم وأنت تجلس على جذعها الشبيه بمقعد المركبة، ما جعلني أقضي معظم طفولتي على هذه الشجرة التي أصبحت عالمي الطفولي الخاص. لذلك، «بحب شجر الزيتون، بس ما بحب الزيتون، حلّوها بقا. وناطرة الشتلة تيجي من فلسطين، وعالوعد يا كمّون!».
إيمان بشير

زيتون

الخطة كانت كالآتي: علي أن أحضر «الشتلة» من طمرة، مسقط رأسي، أما التراب فمن حيفا، والمكاتيب بخط يدي، ثم أرسلها إلى الأردن عن طريق القدس مع أول شخص مسافر ليعطيها إلى صديقة إيمان، وبالتالي ستصلها بعد فترة من الزمن، وكان يجب أن أرفق الكل بـ«حطتين» فلسطينيتين أصليتين. كل هذا كان جاهزاً، في أول زيارة لي إلى طمرة، أخذت شتلة زيتون من زيتوناتنا المزروعات حول البيت، ثم عندما عدت إلى حيفا أحضرت التراب وزرعت الشتلة، وكتبت المكاتيب كذلك (بخط يدي على الرغم من أنه ليس جميلاً) وأوصيت بعض الرفاق على حطتين، كان قد بقي لي أن أرسلها، لكني لم أجد أحداً ذاهباً إلى هناك، ولم أستطع أن أذهب بنفسي، لأني ببساطة لا أستطيع أن ألتقي بالصبية القادمة من لبنان، حينها سيتهمونني باللقاء مع «عميل أجنبي»، وهو آخر ما أنا بحاجة إليه، لهذا بقيت المكاتيب لدي، كذلك الشتلة التي كبرت قليلاً!
بالحديث عن الزيتون، السبب الوحيد الذي دفعني إلى أخذ شتلة من زيتوناتنا هو أنني كنت شديدة التعلق بها عندما كنت صغيرة، إحدى هذه الزيتونات كانت مخبئي، كلما أردت الهروب، أو البقاء وحيدة، أو البكاء، كنت أجلس في داخل تجويفها (لم يكن واسعاً جداً لكني كنت صغيرة بما فيه الكفاية للدخول) وأشعر بها، تضمني، بقوة، وتسمعني!
وواحدة، كانت مكان استجمامي الخاص، أغصانها متفرعة بطريقة تجعل من السهل الجلوس عليها، وكان من السهل تسلقها والجلوس على أغصانها، حتى أنني كنت أغفو هناك أحياناً.
الآن، بعدما كبرت، ولم يعد باستطاعي الجلوس داخل تجويفها أو الجلوس على أغصان الأخرى، ما زلت أشعر بحنين ما نحو أشجار الزيتون، فكلما رأيت زيتونة قديمة أنظر إلى داخلها، هل تجويفها واسع بما فيه الكفاية ليضمني؟ وأفكر في أنه عندما يصير لي بيت خاص ستكون حوله حديقة سأزرعها زيتوناً وزعتراً وحبقاً، وربما سأجد زيتونة عتيقة تجويفها يتسع لي، لتحضنني إلى الأبد!
أنهار حجازي