حضرت إلى صفي في مدرسة «عمر بن الخطاب» في مجد الكروم، كعادتي كل صباح، فالغياب ممنوع عن المدرسة، كما كان يقول أبي دائماً إذا تحجّجنا بوجع البطن من أجل الغياب... «راسكو مقطوع؟» نجيب «لا» يردّ «لكان ممنوع تغيبو... بس ينقطع راسكو لكل حادث حديث».
ولما دخلت الصف، يومها، رأيت «بوستر» (ملصقاً) للنشيد الوطني الإسرائيلي (هتكفا ــ الأمل) معلقاً على حائط المناسبات قرب اللوح. لم أعدّ للعشرة قبل أن آمر يدي بتمزيقه ثم دفنه في سلة القمامة، لكن... القصة كبرت، ووصلت إلى مدير المدرسة عبر عملائه الصغار في الصف.
هربت إلى ركن منزو قرب الروضات. كنت ربما في العاشرة، وصوت المدير ينطلق من الميكرو، يخترق جدران المزارع التي ربّينا فيها السلاحف والنباتات البرية، يلاحقني ويطالبني بأن أذهب إلى غرفة الإدارة لتجري محاسبتي.
المهم... يومها حلّت القصة بالمحبة والتراضي، والمديرــ ابن البلد ــ لم يكتب في ملفي أنني قمت بتلك «العملة السوداء»، لأنه لم يشأ أن يكون سبباً في تخريب مستقبلي العلمي!

في ذلك الزمن، أي قبل حوالى خمسة عشر عاماً، كنّا ندرس «الموطن»، و«الموطن» يا أحباء هو ما تسمونه أنتم «تربية وطنية». أنا شخصياً لمْ أعرف هذه المعلومة إلا حديثاً، لكن الفرق بيننا وبينكم هو أنكم تتعلمون تربية وطنية خاصة بأوطانكم وبلداتكم وجيشكم وطوائفكم، أما نحن فتربيتنا الوطنية من كوكب آخر. نحن نتعلم عن «وطنهم»، «كيبوتساتهم»، «مدنهم»، «أكلاتهم»، «حضارتهم»، «محرقتهم»، «تاريخهم»، «علماؤهم»، «زعماؤهم»... كل الأشياء المصحوبة بضمير الغائب «هم». حتى إننا صادفنا أنفسنا في كتبهم غائبين على هيئة الضمير هم، فصرنا «نحن ــ هم».

ما الذي كنّا نتعلمه إذاً في لوحهم المحفوظ كتاب «الموطن» الذي صار اسمه اليوم في نسخته الحديثة «الحياة معاً في إسرائيل*»؟

يبدأ فصل التعريف عن الوطن «هذه البلاد أوطاننا» بأنه مكان يولد الإنسان فيه ويحيا، أو مكان ولد فيه أجداده، أو مكان "يشعر بالانتماء إليه". ويؤسس هذا التعبير الفضفاض البالغ الحساسية لفكرة مفادها أن اللاجئين الفلسطينيين الذين ولدوا في لبنان وسوريا صارت تلك البلاد بالضرورة أوطانهم! أما عبارة "ولد فيه أجداده" فبالتأكيد لا تعنينا نحن، ولا تعني إخوتنا في مخيمات اللجوء، لأن جدودنا، بحسب هذا الكتاب، هربوا بسبب خسارتهم في الحرب، أي النكبة!
تسبق النص صورة لإسحاق نافون وأنور السادات، بجانبها امرأه بحجاب (عربية مسلمة) واقفة بالقرب من صندوق اقتراع يعلوه علم «إسرائيل»... تخيّلوا معي أن أطفالكم يتعلمون ذلك في «التربية الوطنية». يتعلمون أنه لا بد لنا من العيش بسلام مع الجيران اليهود في الدولة الديموقراطية التي تمنحنا حق التصويت. وأن «إسرائيل» هي دولة صغيرة السن ولدت قبل ستة عقود، وأن اليهود عاشوا فيها قبل آلاف السنين، لكن ظلم الحكام الذي مرَّ على هذه البلاد دفعهم إلى المغادرة والعيش في أصقاع العالم التي لم تنصفهم أيضاً، فتعرضوا للتعذيب والإهانة والاضطهاد الديني والعنصري وللمحرقة، إلى أن خطرت ببالهم فكرة الرجوع إلى «أرض الميعاد» ليقيموا وطناً خاصاً بهم كباقي الشعوب. ثم جاؤوا إلى البلاد التي كانت تقطنها مجموعات من «البدو الرحل»، وبعض العرب الذين لم يقبلوا بفكرة أن تكون هناك دولة للشعب اليهودي!
ثم قامت الحرب بين اليهود والعرب حتّى انتصر الأُول، واضطر الآخرون إلى البحث عن مكان آخر للعيش فيه. أمّا من بقي من العرب فقد عاش إلى جانب اليهود بطمأنينة وسلام، حتى وإن حدثت بعض المواجهات.
حسناً. ثم يأتي دور تعريف العرب الدروز، وإذا بهم، حسب كتاب «الموطن»، جماعة قومية تتبع الديانة الدرزية. صحيح أن لديهم عادات العرب ويتحدثون اللغة العربية، لكنهم ليسوا عرباً! والأهمّ، بالطبع، أنه لدى هؤلاء علاقات جيدة مع العرب واليهود، ويخدمون جميعاً في الجيش.
وتُعرض في هذا الفصل أيضاً صور تقارن وضع البلاد في الماضي بالحاضر، ويستنتج التلميذ الفلسطيني الصغير من ذلك أن عليه شكر عدوّه على "نعمة التحضّر والرقي" التي أنعم بها على بلادنا! فلولا وجوده لبقينا نفلح أرضنا بالحمير والبغال. ويُرفق صوراً لأطفال رضَّع في المستشفيات وأطفال آخرين يتلقون جرعات التطعيم الصحية مرفقة بنص يقول إن جميع المواطنين يحصلون على حقوقهم بصورة متساوية (إي والله) وإن الدولة تؤمّن لهم الأدوية والعلاج بالمجان، ذلك لأنها تحب الأطفال، كيف لا، وهي التي وقّعت على وثيقة دولية لحمايتهم؟!
نتعلم أيضاً في «الموطن» دروساً تلقّننا كيف يكون "العرب الجيدون"، في درس عنوانه «محمد: الشرطي الجماهيري»، وهو شرطي عربي يخدم في السلك الأمني. وبحسب «الموطن»، فهو بالغ التأثير في هذه المهنة التي تدعو إلى الفخر!
نعم هذا هو الوضع. لكن، لا داعي للقلق... نحن نعرف أن كل ما تجرّعناه في تلك الكتب كان بمثابة «من بعد هالعمر... كبيرة المزحة هاي»، كيف لا وعدونا كرر في كتابه كلمة «دولة إسرائيل» أكثر من تكرار اسم الله في الكتب المقدسة؟ أليس التأكيد لمرتين كما يقول المحققون يعني النفي لمرة واحدة ونهائية؟
لا، لا تقلقوا. لم نبلغ بعد «سن اليأس» الثوري. ذات يوم سننفجر كما ينفجر برميل بارود، وسنطلق عليهم الرصاص من مسافة صفر!
وحدهم أولئك المقاومون في باطن الجنوب اللبناني يؤمنون بذلك، أولئك هم حراس الأرض تحتها وفوقها، أولئك هم «ناس التراب» الذين عبروا مواسم الجفاف الفدائي وهم يأكلون من تراب الجنوب حتى صاروا ملحه... أولئك هم من ستهب رياحهم الجنوبية فوق تلال الجليل!


■ ■ ■


نقلت ابني إلى مدرسة عمر بن الخطاب التي درست فيها، لا لأنني أحبها فقط، بل لأنه يصعب "السفر" لمدة ساعة ونصف من صيدا في جنوب لبنان إلى مجد الكروم في فلسطين لزيارة بيت جده. أخبرني أمس أنه سعيد، وأن "المِس" سوسن درّسته في كتاب «الموطن»، ما غيرو، فصلاً لم أدرسه أنا، عنوانه «هذه فلسطين... أعادها رجال الله».