على أثر عملية صافر في مأرب التي أدت إلى مقتل العشرات من الجنود الخليجيين قبل أسبوع، بدّلت القنوات الفضائية الخليجية بما فيها قنوات الدراما برامجها الاعتيادية، وبدأت تبث الأناشيد الحماسية والبرامج الثورية لرفع الروح المعنوية، وتحولت الشاشات إلى النقل المباشر من جبهات القتال وإجراء المقابلات مع الضباط والجنود لإبراز «البطولة والشجاعة» لديهم، ولعرض القدرات العسكرية المتفوقة للجيوش الخليجية.
وفي إجراء غير معتاد أثناء الحروب، أعلنت دولة الإمارات الحداد ثلاثة أيام على قتلاها، كما نكست الاعلام، واتشحت المدن بالسواد.
وبدا أن الدول الخليجية المشاركة في العدوان مستنفرة على كل الصعد وأعلى المستويات، وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وأطلقت شعارات تبرر التدخل في اليمن، وأن وضعه الحالي يهدد الأمن العربي المشترك، وأن الجنود قتلوا في مهمة عسكرية يقتضيها الواجب الوطني والدفاع عن حدود الوطن.
وكعادة مسؤولي الخليج في حل قضاياهم الداخلية بواسطة الرشى والإغراء المال، أعلن ولي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تقديم مبلغ مليون ريال سعودي لكل أسرة قتيل خليجي من الذين قتلوا في صافر، فيما أعفيت أسرهم من الضرائب والرسوم والمدارس وغيرها.
تحركت الماكينة الخارجية للخليج بالطلب من كل الاصدقاء والتابعين والمرتهنين العرب، دولاً وأحزاباً، ضرورة إصدار بيانات إدانة وشجب تصوّر اليمن على أنه «المعتدي»، بل إن بعضهم ذهب بعيداً بالمزايدة بوصف العملية التي وقعت في مأرب وسط اليمن بأنها عملية «إرهابية»!

من يمتلك القرار الخليجي فهو بعيد كل البعد عن العلوم العسكرية والفكر السياسي

ارتفعت الاصوات التي تدعو إلى «الثأر والانتقام»، ليسارع سلاح الجو الخليجي بتلبية الدعوة فوراً عبر إلقاء حمم النار على مدينة صنعاء، فتم إحصاء 380 إغارة جوية في غضون 60 ساعة، محوّلة حياة الملايين من السكان الآمنين إلى جحيم، بالإضافة إلى قتل وجرح المئات من أبناء العاصمة وتدمير حارات بأكملها.
وسلطت الأضواء الإعلامية والسياسية على الحشود العسكرية الضخمة في صحراء مأرب، وبدا أن إعلام الخليج مربك في تغطيته للحشد. فبينما تدعي القنوات الفضائية الكبيرة أن الحشد يتم تجهيزه لـ «معركة صنعاء» واصفين إياها بـ «أم المعارك»، في هذا الوقت أعلن المتحدث باسم العدوان، أحمد عسيري، أن وجهة المعارك المقبلة هي مأرب وتعز فقط.
والحقيقة هي أن الحقد الأعمى والغرور المدمر، يأخذان هؤلاء إلى البحث عن أي هدف أو ايجاد أي خرق حتى لو كان في صحراء مأرب، ليسجلوا «إنجازاً» يقدمونه لأنفسهم ولجمهورهم، علهم يزيلون شيئاً من غلّ صدورهم وحقد قلوبهم، أو مادة يقدمونها إلى العالم تمسح عنهم ألم الهزيمة والشعور بالضعف والعجز.
أن تسمع من التصريحات والبيانات كلمات المؤاساة والتعزية، فهذا قد يكون مفهوما في أدبيات الدول، ولكن أن تسمع كلمات الافتخار والاعتزاز أو الدعوة إلى الانتقام والثأر، فهذه وقاحة سياسية واضحة.
التضليل الإعلامي والسياسي صوّر الجنود الخليجيين الغزاة الذين يحتلون أجزاء من اليمن ــ هذا البلد الفقير والطيب ــ بأنهم ضحايا أبرياء، وأن سقوطهم في مأرب أدى إلى خدش في الشعور الانساني وجرح في الكرامة العربية والعالمية النبيلة.
أما آلاف الشهداء والضحايا من المدنيين اليمنيين الأبرياء الذين سقطوا ويسقطون يومياً جراء الغارات الوحشية على المدن والقرى في اليمن، وكذلك التدمير الممنهج للبنى التحتية، وضرب كل سبل الحياة والعيش وكأنها مسألة خاضعة لوجهات نظر، ذلك كله يدل على أن من يمتلك القرار الخليجي بعيد كل البعد عن العلوم العسكرية والفكر السياسي، وحتى القيم الانسانية والقواعد التي تنظم الحروب.
يخوض أمراء الخليج المعركة في اليمن خارج أي إطار سياسي، وباستهتار في الجهود الدبلوماسية التي تبذل من قبل الأمم المتحدة. تصطدم مساعي المبعوث الدولي اسماعيل ولد الشيخ بالرفض الخليجي. والجديد في هذا الإطار، أن السعودية ترفض كل صيغ الحلّ السياسي التي تتضمن ولو حتى مجرد الاشارة إلى التعويضات، وإعادة الإعمار، أو الحدود واحترام السيادة الوطنية لكل بلد أو مكافحة الارهاب. وترفض السعودية تسمية تنظيمي «القاعدة» و»داعش»، كما أنها ترفض مطالبة جميع الفصائل المسلحة بتسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، وتشترط ذلك فقط على «أنصار الله».
إن الميديا وشراء الذمم والترسانات العسكرية الضخمة، والاحتياطات المالية الهائلة (الآخذة بالنفاد سريعاً)، لن تقدر على تغيير الواقع ولا قلب الحقائق الواضحة مثل الشمس في رابعة النهار، وهي أن السعودية وأخواتها غرقوا في الوحول اليمنية، ولن يجدوا مخرجاً للتخلص منها. وما الإغراء المحفز لهم بعد الدخول إلى بعض مدن الجنوب، أو الشعور بالانتقام لواقعة مقتل جنودهم في صافر، إلا وقود للاستمرار بالغرق.