يصح القول إن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، استطاع الاستحواذ على قدر من الاهتمام الإسرائيلي بسبب الحديث المتزايد عن استقالته والخطوات التي ينوي فعلها احتجاجاً على حالة الجمود السياسي.
ومن الواضح أيضاً أن عباس أثار قدراً من التساؤل عن حقيقة موقفه وجديته في الوسط الإسرائيلي، وهو ما انعكس في دعوة وزير الطاقة (المقرب من بنيامين نتنياهو)، يوفال شطاينتس، حكومته، إلى دراسة الخطوات الواجب اتخاذها في حال إعلان «أبو مازن» إلغاء اتفاقية أوسلو.
وشدد شطاينتس على أن «الرد الإسرائيلي يجب أن يكون حازماً على أرض الواقع»، وأنه يجب التفكير في فرض عقوبات اقتصادية وسياسية وأمنية على السلطة.
لكن، في المقابل، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن التقديرات في الحكومة وأجهزتها، تفيد بأن «تهديدات أبو مازن شبيهة بتهديداته السابقة بالاستقالة أو حل السلطة، وهو ينبع بالدرجة الأولى من اعتبارات سياسية فلسطينية داخلية، ومن إحباط ناتج عن الجمود السياسي».
ولفتت مصادر إسرائيلية إلى أن «لدى أبو مازن الكثير مما يخسره، فهم (السلطة) متعلقون بالتعاون الأمني مع إسرائيل ويعرفون جيداً أنه من دون هذا لن يتحسن وضع الفلسطينيين على الأرض بأي شكل، كما لم ينفعهم رفع مستوى السلطة إلى مكانة دولة مراقبة في الأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات».
وأضافت المصادر نفسها إن عباس «يبحث عبثاً عن سبيل للعودة إلى الوعي العالمي، على ضوء انشغال العالم باللاجئين السوريين وبإيران... لم يعد الفلسطينيون يعنون أحداً».
مع ذلك، ينبغي التذكير بحقيقة أن أداء الرئيس الفلسطيني السياسي وتمسكه بمبدأ أن «لا بديل عن التسوية» الفاشلة «إلا التسوية» نفسها، هو من الأسباب الرئيسية التي وفرت لإسرائيل الضمانة الفعلية بأن تشددها وتسويفها لن يترتب عليه أي تداعيات سياسية وغير سياسية، تطيح المفاوضات المطلوبة لذاتها إسرائيلياً ودولياً، بعيداً عما يمكن أن تحققه من نتائج.
في السياق نفسه، شكلت المحطات التي مرت بها العملية السياسية، سوابق ارتكز إليها قادة العدو في استشراف آفاق المسار السياسي، على خلفية إدراكهم الهامش الذي يمكن فعلياً للرئيس الفلسطيني بلوغه في ضغوطه وتهديداته.
نتيجة ذلك، لم تنجح كل رسائل عباس وتسريباته وتلميحاته السابقة، بل مشكلة «أبو مازن» ومن حوله، أنهم يتجاهلون حقيقة أن المفاعيل الردعية لأي تهديد، مشروطة باقتناع المتلقي بصدقية موجِّه الرسائل، وقدرته على تنفيذ تهديده. وهو ما لا يتلاءم مع كل السوابق التي أسست لها السلطة، ولا مع الرؤية التي يتبناها عباس إزاء مسار التسوية.
وبعيداً عن الدخول في لعبة التقديرات حول ما إذا كان عباس جاداً وحازماً في تبني هذه الخيارات، فإن الأهم هو ما تنطوي عليه الإيحاءات بخيار إلغاء «أوسلو»، وخاصة أن مسار التسوية تجاوز مرحلة الأزمات التي يمكن أن تواجه أي فكر ومشروع سياسي، بفعل مواجهة التحديات، بل بلغ مرحلة المأزق التي توجب إعادة النظر في القواعد والأدوات التي عمل بها مسبقاً، من أجل اجتراح مخرج من المراوحة التي تدور فيها.
ولا يخفى أن معالجة الأزمات تكون عبر تطوير الأدوات ومراجعة بعض الرؤى والرهانات. أما في حالة المأزق، فإن المخرج لا يكون إلا بتغيير المقدمات والمنطلقات التي أفضت إليه.
ومن دون الحاجة إلى الدخول في تفاصيل معالم هذا المأزق، يكفي التذكير بحقيقة أن السلطة الفلسطينية وخياراتها السياسية هي تتويج لمسار انطلق بداية من مشروع تحرير وطن، ثم تراجع إلى مشروع لبناء دويلة على قسم صغير من تراب ذلك الوطن.

ما جرى كمن يهدد إسرائيل، لكن يضمن لها ألا يصل الأمر إلى ما يهدد أمنها!

مع ذلك، دون هذا الطموح، يوجد الكثير من العقبات التي حالت وتحول دون تحققه، وهي نتيجة حتمية لكل من يراهن على إمكانية التوصل إلى تسوية تجسد قدراً معتبراً من الطموحات، مع عدو كالإسرائيلي، لجهة محتواه الأيديولوجي في النظرة إلى الآخر الفلسطيني والعربي... والأرض والتاريخ والمستقبل.
ربما يحلو لبعضهم إجراء تمرين نظري انطلاقاً من فرضية أن سيناريو إلغاء اتفاقية أوسلو، واستقالة «أبو مازن» هي سيناريوات فعلية وواقعية، فينبغي التحديد: هل المقصود بإلغاء أوسلو إلغاء كل مفاعيله، بما فيها تلك المتصلة بالتنسيق الأمني مع أجهزة العدو أيضاً؟
إن لم يكن الجواب إيجابياً، فهذا يعني كمن يهدد إسرائيل، لكن يضمن لها أن لا يصل الأمر إلى ما يهدد أمنها.
من المجدي استحضار ما نقله موقع «يديعوت أحرونوت» الإلكتروني عن مصدر رفيع في الاستخبارات العسكرية، تأكيده أنهم فوجئوا برد الفعل الضئيل نسبياً على الأرض نتيجة مقتل عائلة دوابشة في قرية دوما (مدينة نابلس). وعزوا ذلك إلى «الخطوات السريعة الكابحة التي اتخذتها أجهزة الأمن التابعة لأبو مازن بأوامر مباشرة وفورية منه».
في كل السيناريوات، من المجدي محاولة تلخيص الإرث السياسي الذي تركه عباس للشعب الفلسطيني ولقضيته الوطنية، سواء كان ما يجري من تسريبات مناورة ومحاولة ضغط فاشلة، أو من باب الفرض، تعبيراً عن خيارات جدية.