تقع تونس جغرافياً بين عملاقين حجماً وثقلاً: الجزائر وليبيا. وقد نجحت تونس تاريخياً في التموقع وتجنب نزوات الهيمنة لديهما، غير أنها تواجه اليوم خطراً جديداً من الشرق، ألا وهو الجماعات المسلحة التي قامت على أنقاض الدولة الليبية (sub-state actors)، فيما تحاصرها من الغرب دولة قومية متماسكة ومهيمنة (statist hegemon)؛ الجزائر. دفع هذا الأمر تونس نحو «ركوب القاطرة» (bandwagoning) الجزائرية، لكن إلى متى؟
ما قبل 2011: الرقص على الميزان

وبالتمعن في الخريطة نجد أن تونس بمثابة ساحل الجزائر الشرقي، تماماً كما يمثل لبنان ساحل سوريا الغربي. فغرب تونس، 965 كلم من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، هي الجزائر التي تنزل جنوباً نحو الشرق لتعانق تونس عند التقائها بليبيا. هذا ما يجعل تراب الجمهورية التونسية أرضاً محصورةً إلى حد كبير داخل الجزائر، بحدود يصعب مراقبتها، إذ إن ثلثها جبال وغابات وثلثيها الباقيين صحراء قاحلة.

كذلك تشترك تونس مع ليبيا بحدود يبلغ طولها قرابة 460 كلم في منطقة صحراوية يقل عدد سكانها. لكن بحكم قرب الحدود التونسية من طرابلس، مثلت هذه المنطقة متنفساً للملايين من متساكني غرب ليبيا طوال أزمات القرن العشرين والسنوات التي تلته، كما كانت نقطة عبور لمئات الآلاف من العمال التونسيين نحو جماهيرية النفط منذ ستينيات القرن الماضي.
ومارست تونس طوال تاريخها المعاصر لعبة «ركوب القاطرة» (bandwagoning) المذكورة أعلاه، بين الاثتنين، تقترب تارةً من ليبيا وتارةً أخرى من الجزائر. خلق هذا الأمر نوعاً من التوازن في المنطقة، حيث كانت تونس «تهرب» نحو الجزائر كلما اشتد الضغط من ناحية ليبيا (في عهد معمر القذافي؛ 1969-2011) ونحو ليبيا كلما توترت الأوضاع غرباً (خصوصاً في عهد هواري بومدين؛ 1965-1978).

مارست تونس طوال تاريخها المعاصر لعبة «ركوب القاطرة»
هذا ما يفسر مثلاً قيام «الجمهورية العربية الإسلامية» (ج.ع.إ.) بين ليبيا وتونس سنة 1973، وهي الكيان الذي كان سيمكّن الأخيرة من الوقوف في وجه الهيمنة الجزائرية وتأطير القوة الليبية الناشئة في نفس الوقت. غير أن مشروع الوحدة هذا ربما كان سيؤدي إلى ابتلاع تونس كلياً من طرف ليبيا، ما دفع عدداً من مستشاري الرئيس الحبيب بورقيبة في ذلك الوقت إلى الوقوف ضد الج.ع.إ. وإجهاضها.
وظلت تونس تتقلب كذلك حتى وصول الرئيس زين العابدين بن علي (1987) الذي عرف التوفيق بين الاثنين. ورغم بعض الاهتزازات، أصبحت علاقة تونس بجارتيها ممتازةً ــ وكان ذلك توازناً وسطياً ميزه السلم من الجهتين، مقابل الفترة السابقة التي تتالت فيها المواقف العدوانية من هذا الطرف أو ذاك ــ حتى سنة 2011 عندما اشتدت الثورات.

2011: العاصفة

يبدو أن القذافي قد حاول إفشال ثورة تونس، وأشيع أنه لو لم تنتقل الاضطرابات إلى ليبيا لربما وجدت تونس نفسها في قلب ثورة مضادة لإرجاع بن علي بمعاضدة القذافي. لكن سرعان ما وجد الأخير عرشه مهدداً فانكفأ على نفسه. لم تقطع تونس الرسمية علاقاتها مع نظامه، بل رحبت بالمقربين منه وشجعت استقرارهم داخل ترابها بكل ثرواتهم، ولكنها فتحت أيضاً قنوات عدةً مع «الثوار» وصلت حد تسهيل مرور السلاح عبر الأراضي التونسية. جنب هذا الأمر تونس انتقام القذافي طوال 2011، وأعدها للتواصل مع من خلفه في طرابلس ــ لو سارت الرياح بما تشتهي السفن.

أما من ناحية الجزائر، فقد توجست القيادة هناك من رحيل بن علي. فقد أصبحت تونس الجديدة تمثل تهديداً لاستمرارية الدولة الجزائرية الحالية: ثورة شعبية ديموقراطية يمكن استنساخها ضد نظام يحكمه العسكر والمخابرات وبورجوازية ما بعد الاستقلال، وكذلك أرضية خصبة لنمو الحركات الإسلامية المتطرفة التي ناصبت العداء لمؤسسات الدولة الجزائرية، وموطن قدم مغاربي لجمعيات نشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان المرتبطة بدوائر القرار الغربية. فبدأت أوساط النخبة (المهووسة بنظرية المؤامرة) ــ عسكر، مثقفين، إعلام... ــ تتحدث عن مؤامرة كبرى تستهدف الجزائر انطلاقاً من تونس.
ضغطت الجزائر على الطرف التونسي لتعزيز التعاون الأمني والعسكري الذي تكون الجزائر الطرف الأكبر فيه والمسيطر. وكانت تونس دائماً في حاجة للخبرة الجزائرية بسبب المنطقة الجبلية الحدودية التي نخرها تهريب السلع والإرهاب. كذلك استغلت الجزائر إعلامها الموجه لمهاجمة كل من ينتقدها في تونس، وكان لذلك صدىً لدى الكثير من التونسيين. هذا وكررت الجزائر الوعود بالمساعدة المالية، مستغلةً أزمة الاقتصاد التونسي المستفحلة، إلخ.
هكذا إذاً حاولت الجزائر احتواء ثورة تونس والسيطرة ــ غير المباشرة ــ على سياساتها. لكن العلاقة لم تتعكر كثيراً سنة 2011، إذ بقيت تونس إلى حد ما في يد نظامها القديم، وكان كل من الرئيس حينها فؤاد المبزع (مواليد 1933) ورئيس حكومته الباجي قائد السبسي (مواليد 1926) يتمتع بعلاقات قديمة مع شيوخ المرادية وقصبة الجزائر. فكان توجه تونس الرسمي بعد سقوط بن علي هو التهدئة والتأكيد أن الثورة لن تعبر الحدود.


انتهاء التوازن


إلا أن انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2011 في تونس غيّرت الموازين. صعد الإسلاميون (النهضة) والثوريون الشعبويون (المؤتمر من أجل الجمهورية) والديموقراطيون المقربون من الحزب الاشتراكي الفرنسي (التكتل من أجل العمل والحريات) إلى السلطة، ولزعمائهم وقواعدهم تاريخ سواء في التهجم على القيادة الجزائرية أو انتقاد سطوة الجيش على السلطة أو التحريض على اقتلاع النظام العربي القديم برمته.
واعتقدت السلطات التونسية الجديدة أن المعادلة قد سقطت نهائياً وأن ليبيا المنهكة المدانة لتونس (إنسانياً وسياسياً) أصبحت تحتاج لجارتها الفقيرة وليس العكس. وبعدما كانت الجزائر سابقاً أول مقصد لكل من يعتلي عرش تونس، جعل الرئيس المنصف المرزوقي من ليبيا أولى محطاته الخارجية (شباط/ فيفري 2012)، فيما لم يزر رئيس الحكومة حمادي الجبالي الجزائر سوى ثلاثة أشهر قبل استقالته (كانون الأول/ ديسمبر 2012).
قلصت سلطات الجزائر في المقابل من مستوى التعاون مع تونس، ما يفسر ــ ربما ــ ترعرع مجموعات إرهابية في جبال الشعانبي على الحدود الجزائرية. وشنت الصحافة الجزائرية المقربة من دوائر القرار حملات ممنهجة ضد تونس وسياسييها، فيما كثرت المطالب بتجنب السياحة في تونس وعدم استيراد بعض منتجاتها الصناعية أو الفلاحية (الزراعية).
ولكن سرعان ما تعقدت الأمور في ليبيا التي تفككت إلى مجموعات متناحرة، فوجدت تونس نفسها تدريجاً وجهاً لوجه مع حكومة تتخبط في قراراتها وتحتكم إلى نزوات ميليشياتها. واستفحلت في الأثناء مشاكل تونس الاقتصادية والأمنية، ففهم صناع القرار ألّا مفر من إرضاء الجار الجزائري مجدداً. هكذا وجدت تونس نفسها وحيدةً أمام عملاق غاضب، تحاول جاهدةً «ركوب القاطرة» من جديد.
فتتالت زيارات القيادات التونسية للجزائر منذ سنة 2013: عدة زيارات لقائد السبسي كرئيس لـ «نداء تونس» وزيارة دولة كرئيس للجمهورية (أولى زياراته الرسمية خارج البلاد)؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى راشد الغنوشي كرئيس لحزب «النهضة»؛ ثلاث زيارات للمهدي جمعة (رئيس الحكومة سنة 2014)؛ زيارتان للحبيب الصيد (رئيس الحكومة منذ شباط/ فيفري 2015)؛ فضلاً عن تنقلات الوزراء والمسؤولين إلى الجزائر.
هذا وغيّرت الجزائر من موقفها تجاه تونس ابتداءً من سنة 2013، وذلك لسببين أساسيين: الأول هو تعدد المنظمات الإرهابية في المغرب العربي واستقواء الحركات الفاعلة، والثاني هو سقوط الدولة في ليبيا. أصبحت تهدئة الوضع في تونس والتعاون معها إقليمياً يعلوان على محاولة احتواء ثورتها والحسابات السياسية القصيرة المدى. لذلك، أسهمت القيادة الجزائرية في إنجاح الحوار الوطني الذي أخرج تونس من انقساماتها في 2014، وشجعت طرفي الأزمة الأساسيين ــ نداء تونس والنهضة ــ على الاتفاق وتشكيل حكومة جامعة (2015).
وقد اصطف حزب «نداء تونس» منذ نشأته وراء الجزائر، وبدأت توجهات الحكومة التي كونها تتماشى مع السياسة الجزائرية. لنأخذ حادثتين منفصلتين مثالاً.
تكنّ غالبية قواعد «نداء تونس» وقياداته كرهاً جذرياً للإسلاميين، كما طال الحديث طوال سنة 2014 عن تحالف بين حزب «النداء» وقيادة الإمارات العربية المتحدة المعادية للإسلاميين. لذلك فقد انتظر أغلب المحللين أن تكون حكومة ما بعد الانتخابات خاليةً من ممثلي حزب «النهضة»، لكن كان العكس. أشار البعض إلى البحث عن التوافق، والبعض الآخر إلى ضغط أميركي. لكن أشار آخرون، خاصةً من داخل «النهضة»، إلى ضغط جزائري.

موقف الجزائر من تونس لا ينبع من مبادئ ومواقف ثورية

كذلك لما دفعت «مصر السيسي» ومن ورائها الإمارات إلى تدخل أجنبي في ليبيا (شباط/ فيفري 2015)، اعتقد البعض أن تونس ستدخل في خط أبو ظبي ــ القاهرة. لكنها عارضت الأمر، أسوةً بالجزائر. خلّف ذلك تململاً في العاصمتين، ويقال إن تأجيل زيارة الرئيس قائد السبسي لهما مرتبط بمواقف الدولة التونسية من الإسلاميين وليبيا.


ركوب القاطرة حتى النهاية

غير أن «ستة أشهر» العسل هذه لم تدم. أخذت تونس تتقارب أكثر فأكثر من حلف «الناتو» والولايات المتحدة الأميركية، وبلغ الأمر أوجه في صيف 2015 عند زيارة الرئيس قائد السبسي لواشنطن وتحول تونس إلى «حليف رئيسي خارج حلف الناتو» لأميركا. غضبت الجزائر، وأشيع أنها سحبت سفيرها وهددت بمراجعة علاقات التعاون، كذلك انطلق عنان إعلامها ضد السلطات التونسية.
تعتبر الجزائر كذلك حليفاً لواشنطن وبروكسل في المنطقة، خصوصاً في مقاومة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. أي إن موقفها من تونس لا ينبع من مبادئ ومواقف ثورية كما تدعي أبواقها الموجهة، ولكنها، كقوة مهيمنة (hegemon)، تريد أن تكون المسيطر على سياسات شمال أفريقيا. نتبين من هنا ما أوردته صحيفة «الخبر» الجزائرية المقربة من الجيش الجزائري في شباط/ فيفري 2014 حول اشتراط الجزائر على تونس أن تمر بها قبل توقيع أي اتفاقية عسكرية مع دولة ثالثة. كذلك نفهم سباق الجزائر مع المغرب في تنظيم جولات الحوار الليبية، وسعيها لأخذ الدور المحوري من مصر في إدارة الأزمة الليبية ومن المغرب في مقاومة الإرهاب القادم من منطقة الساحل والصحراء.
لا تبدو الجزائر قادرةً على احتواء المشاكل الإقليمية، ولا حتى وضع تصور مستقبلي لسياساتها الداخلية، وهي الدولة القائمة على عائدات النفط والغاز، وخطاب الخمسينيات السياسي. لكن لا تملك تونس في المقابل مجالاً واسعاً لمناورة هذه القوة المهيمنة المرتعشة، خصوصاً مع اشتداد الأزمة الليبية. ومهما اقتربت من بلدان غربية أو عربية، فلن تتمكن من الاستغناء عن الجزائر، لما للأخيرة من نفوذ داخل تونس. سيتواصل «ركوب القاطرة» إذاً، إلى أن تتوقف بمفردها.

*باحث تونسي