فراس خطيب
حيّ سلوان المقدسي ينتفض. السكان خرجوا إلى الأزقة أكثر من أي وقت مضى. فالمكان المهمّش في المدينة المقدّسة يعيش منذ زمن بين انفجارين. من يتابع التفاصيل في ذلك المكان يعِ أنّ الزمن الممتد بين الانفجار والآخر آخذ بالتقلّص. وفي كل مرّة، يشهد الحي المنسي تصعيداً أصعب ضد أهله. الحي الذي يسكنه أكثر من 50 ألف فلسطيني، زوّد مشهد الصراع بالعناوين عن مكان مستهدف في المدينة المقدسة. عناوين تعود على ذاتها، فوضع سلوان لم يتحسن دوماً. مواجهات تبدأ عادةً عند الفجر، وتنتهي عند الظهيرة، يتخللها إطلاق نار وغازات مسيلة للدموع تكتسح أزقتها الضيّقة، لكنّ يوم أمس جاء التصعيد المتوقع أكبر.
أحد حرّاس الأمن، الذين يحرسون المستوطنين الذين استولوا على بيوت فلسطينية في قلب الحي، فتح النار على شابين من الحي وجرحهما. استشهد أحدهما، سامر سرحان (32 عاماً)، ليشتعل المشهد مرةً أخرى. أحد السكان كان واضحاً في حديثه عن ردة فعل تصعيدية بقوله لـ«الأخبار»، «هذه المرّة، لن نمر على هذا بهدوء».

استشهاد سرحان وإطلاق قاتله يبينان لنا أنّ المدينة على موعد مع الصراع
الشرطة الإسرائيلية ادّعت أنّ عدداً من سكان الحي «أغلقوا الطريق» أمام أحد الحرّاس وألقوا الحجارة عليه، فشعر الحارس بأنّ «حياته مهدّدة» فأطلق النار. إلا أنّ أهالي الحي قالوا إن الاستفزاز جاء من الحارس وهو من طارد الشبان وأطلق النار عليهم، قبل أن تعود شرطة الاحتلال وتعتقل الحارس لفترة وجيزة، وإن حاولت تبرير فعلته بقولها إن الشهيد له خلفيات جنائية، وإنه بعد تفتيش جثته عثر على سكين ومفك.
شبان كثيرون خرجوا إلى الشارع. أحرقوا الإطارات وألقوها باتجاه قوات الأمن الإسرائيلية التي طوّقت الحي المطوّق أصلاً. في المقابل، أطلقت شرطة الاحتلال والوحدات الخاصة القنابل الصوتية والغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاطي. وهذا النوع من القنابل يكتسب رعباً آخر في سلوان. فقنبلة الغاز تنفجر بين الأزقة ويدخل دخانها إلى البيوت المتراصة بعضها على بعض، وحالات الاختناق مضاعفة.
وعلاوةً على تلك المعاناة، قال مدير شركة الحراسة الإسرائيلية إنّ هناك «فراغاً سلطوياً» في سلوان، مبيّناً أنه طلب من الشرطة تزويد الحراس بوسائل «تفريق المتظاهرين»، وكأنّ الوضع يستدعي فريقاً معادياً آخر للفلسطينيين.
الهدوء عاد بعد اشتعال الفجر، وكادت الظهيرة أن تمر بهدوء، إلى أن حان وقت تشييع جثمان سرحان، ليتّسع الجرح المفتوح للتوّ. الآلاف رافقوا سرحان إلى مثواه الأخير، من سلوان وصولاً إلى المسجد الأقصى، حيث صلّي على جثمانه. فاشتعل المشهد عند فراقه. في تلك الأثناء، اتسعت عين العاصفة وتعرض إسرائيلي لطعن على مقربة من حيّ جبل الزيتون لتشتعل المواجهات. وهاجم الفلسطينيون ممتلكات وبؤراً استيطانية في منطقة وادي حلوة في سلوان. كذلك جرى تحطيم حافلة تابعة لشركة «ايغد» الإسرائيلية. وامتدت المواجهات عند باب المغاربة. وفيما اقتحمت شرطة الاحتلال باحة المسجد الأقصى، أصيب أربعة إسرائيليين بجروح نتيحة إلقاء الحجارة.
وقال أحد الإسرائيليين إنّ مئات الفلسطينيين، جزء منهم كانوا ملثمين، «ألقوا الحجارة على مجموعة مكوّنة من عشرين جندياً إسرائيلياً كانوا محصنين في أحد بيوت المستوطنين، ولم تكن فرقة الجنود قادرة على الرد».
إلا أن شهود عيان قالوا لـ«الأخبار» «إنّ المشهد كان صاخباً للغاية، فالغضب يسيطر على أهالي الحي هذه المرة أكثر من أي وقت مضى».
ومع حلول العصر، تسلل الهدوء النسبي إلى أزقة المدينة المحتلة. فالهدوء في القدس ليس حذراً فحسب، إنه هدوء دائم قبل عاصفة ستأتي حتماً. من يخطّ السطور عن المواجهات على تلك الأرض المنسية يعِ أنه سيكتب مرةً أخرى، عن تصعيد أكبر قادم إذا لم يحدث تحول جذري قريب. من يسر هناك يعِ أن لا مكان سوى للتشاؤم، فالأسباب التي أشعلت المشهد لا تزال ذاتها.
استشهاد سرحان وإطلاق سراح قاتله علامة تختزل الواقع، وتبيّن لنا أنّ المدينة المقدّسة على موعدٍ مع الصراع! والأهم أنه عندما خرج أهل سلوان عند الساعة الرابعة فجراً ضد قوات الأمن، لم يفكروا ربما بأنّهم يخوضون غمار الذكرى بطريقتهم. ففي مثل هذا الأسبوع قبل عشرة أعوام بالضبط، اشتعلت الانتفاضة الثانية، عندما دخل عضو الكنيست في حينه أرييل شارون (الليكود) إلى باحة المسجد الأقصى المحاذي لسلوان. لم يطلق أحد اسم الانتفاضة الثانية على الأحداث إلا بعد تطورّها.

ما يجري في سلوان لن يؤّدي إلى انتفاضة ثالثة، لكنّه علامة على تصعيد الاشتعال
وما يجري في سلوان اليوم ربما لن يؤّدي إلى انتفاضة ثالثة، لكنّه بالتأكيد علامة على تصعيد الاشتعال. فالسلطات الإسرائيليية، تصعّد عداءَها للقدس والمقدسيّين. تحاول فرض أمر واقع في ظل المفاوضات. تلفت أنظار العالم إلى مستوطنات الضفة الغربية والبناء أو عدم البناء فيها، فيما صلب القضية، القدس وما حولها، يتعرض لتهويد يومي ومخططات ذات «طابع استراتيجي» لم تقدر المفاوضات حتى الاقتراب منها.
سلوان حيّ يختزل الصراع بأزقته. عبارات مثل التهويد والاستيطان والاستهداف تتجلى بين بيوته. يستطيع المرء أن يراه بثاً حيّاً ومباشراً. كيف تسير عائلة المستوطنين مدججة بالحرّاس في أزقة الحي. وكيف أنّ «حراس أمن» المستوطنين هم مصدر قلق السكان الأصليين للمكان. ترى التهويد جاثماً أمام العين، فتنظر إلى ذلك الحي المنحدر من أعلى سفح الجبل المنتهي بحي البستان في أسفل الوادي، وترى أعلاماً إسرائيلية علقت على عدد من البيوت في الحي علامة على «سقوطها بأيدي المستوطنين». وترى الاستهداف على نحو يومي. كل هذا، مغلّف بوضع اقتصادي صعب، وبنى تحتية منعدمة. ومن السهل التنبؤ، بأنّ أحداث يوم أمس، كما أحداث السنوات الماضية، هي انفجار حالة دائمة من الاحتقان.


تصعيد وتفاوض من جهته، قال المتحدث باسم حركة «فتح»، أحمد عساف، إن «إعدام سرحان بدم بارد على أيدي فرق الموت التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي يؤكد سعي حكومة الاحتلال إلى تفجير المنطقة ونسف كل جهود السلام الدولية المبذولة».
بدوره، انتقد القيادي في الحركة، محمد دحلان (الصورة)، إسرائيل، قائلاً إنها «تحاول إشعال انتفاضة ثالثة على الرغم من أن الفلسطينيين غير معنيين بذلك»، مضيفاً إن ما حدث «تجاوز لجميع الخطوط الحمر».
فيما قال المتحدث باسم حركة «حماس»، فوزي برهوم، إن «ما يجري في حيّ سلوان في القدس المحتلة يعكس النوايا الخبيثة لحكومة الاحتلال في استغلال استمرار المفاوضات بينها وبين السلطة»، مشيراً إلى أن «الاحتلال يستغل المفاوضات كغطاء فعلي لارتكاب الجرائم».
(يو بي آي، أ ف ب، الأخبار)