في المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، من المتوقع مناقشة حق اللاجئين بالعودة من المنظار الفلسطيني، وتسوية عادلة لأوضاعهم من المنظار الإسرائيلي. لكن أبناء البارد باتوا يفكرون ويحلمون فقط بالعودة إلى مخيّمهم
روبير عبد الله
مرة جديدة تمر أيام رمضان في مخيم نهر البارد على غير ما اعتاده أهله والجوار. مجدداً مقدمات العيد مفقودة. فالمحال التي يقصدها فقراء عكار لم تشهد هذه السنة أيضاً الزحمة المعتادة، فالإجراءات الأمنية لا تزال تقف حائلاً دون توافد العكاريين إلى السوق المتناسب مع سوء حالهم المتفاقم هو الآخر، سنة بعد أخرى. هكذا، وبرغم عودة قرابة 20 ألف مهجر إلى بيوتهم المدمرة، وبرغم سرعة الفلسطينيين الهائلة بمعالجة آثار الدمار حيثما حلوا، من دون انتظار وعود الإعمار، تبدو شوارع المخيم وأزقته مساحات مقفرة في نهارات الصوم الرمضانية الطويلة.
ومع ذلك يُزج الفلسطينيون في أتون حدث عنوانه ضخم، وهو ما يسمى بالمفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. مفاوضات يرعاها حامي الكيان الصهيوني، الولايات المتحدة الأميركية، ويزينها قادة «الاعتدال العربي». كيف يرى أهل المخيم هذه المفاوضات التي تجري على خلفية تشرذم فلسطيني وعربي غير مسبوق؟ تحاول أن تقصد قلب المعاناة في «البراكسات» فيصدمك مشهد العراك عند مدخله، وينصحك آخرون بالابتعاد، فالأعصاب متوترة والناس تتعارك لأتفه الأسباب من شدة الحر، وقلة الحيلة بانتظار مائدة إفطار لن تحفل بما يملأ البطون الخاوية والنفوس القلقة من يومها وغدها.
تعود أدراجك باتجاه شارع كان نصيبه من التدمير أقل من غيره. تطرق باب كاراج أصبح منزلاً يؤوي سمير أحمد داوود وعائلته. «شو المفاوضات؟ اسأل هذا (مشيراً إلى ولده ابن السابعة) عن المفاوضات؟ إنها مدمرة للشعب الفلسطيني. هي مجرد بويا لتلميع صورة إسرائيل. وهذا ما تعرفه بعض جماعة (حركة) فتح من التجار وأصحاب والشركات». ثم يتساءل عن الحل العادل الذي يتحدثون عنه، ما دام الاستيطان مستمراً، والبحث في مصير اللاجئين خارج الحسابات»، علماً بأن الحل العادل بنظرنا يقضي بشطب إسرائيل لأن الصراع هو صراع وجود» كما يقول. ومع ذلك يعتبر داوود أن المقاومة لن تستطيع وحدها تحرير فلسطين، بل هي لتذكير العالم بوجود قضية. بانتظار قدوم زعيم كبير مثل أحمدي نجاد أو بروز زعيم عربي مجدداً مثل جمال عبد الناصر على رأس جيوش عربية أو إسلامية، وهذا ما يحتاجه استرجاع فلسطين التاريخية، «ومش مهم، إذا كان القائد إسلامياً أو شيوعياً أو ناصرياً». ثم ينتقل إلى الحديث عن أحوال المخيم وعن المحاولات الرامية إلى تجميع الفلسطينيين في «الأبنية النموذجية من أجل تمزيق الروابط العائلية والأخلاقية»، وهو برأيه ما تسعى إليه «الجمعيات التبشيرية» التي تريد إبعادنا عن الدين والقضية. وقد أحزرت هذه الجميعات نجاحات كبيرة، لأن «تسعين في المئة من الجيل الجديد مدمر، وعندما تتحدث معه في السياسة ربع ساعة يصاب بوجع في رأسه، فمنذ 20 سنة وأفكار المقاومة تتراجع في المخيم والشباب داير على حل شعره». تلك هي أفكار داوود الذي يعمل في التلييس. أما جاره المدرس في الأونروا الذي رفض الإفصاح عن اسمه، وحاله في ذلك حال الموظفين في الكثير من المؤسسات، فإنه يعتبر أن خيارات التسوية سقطت كلها، من أوسلو إلى مدريد ووادي عربة. والمؤسف أن كل جولة من المفاوضات تبدأ بموافقة الفريق الفلسطيني على ما كان موضع خلاف في الجولة السابقة. وعلى أي حال، فالفريق المفاوض لا يمثل ربع الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن قرار استئناف المفاوضات جاء بإملاءات مصرية وأميركية. بل حتى ضمن البيت الفلسطيني اتخذ القرار بموافقة 6 من أصل 16 صوتاً من أصوات المجلس الوطني الفلسطيني. لكن عباس وجماعته ملزمون بهذا الخيار، ما داموا قد ألغوا خيار المقاومة. وبما أن السلام مع العدو مستحيل، فالمفاوضات لن تؤدي إلا إلى مزيد من التنازلات وإسقاط الحقوق، وأهمها حق العودة. بل المزيد من التهجير لأن الاعتراف بيهودية إسرائيل سوف يؤدي إلى إخراج مليون وربع مليون من الأراضي المحتلة عام 1948. وهذا ما يؤدي باللاجئين إلى حال من اليأس، وخصوصاً في نهر البارد حيث اليأس مضاعف بسبب الإجراءات الأمنية المشددة وبسبب الحال الاقتصادية. وما يعزز حال اليأس هو الانقسام الفلسطيني الذي جعل أكثر من 80 في المئة من سكان المخيم غير منتمين سياسياً بالرغم من تأييدهم للمقاومة عموماً.
خارج المخيم يستثمر أحد أبناء البارد مشغلاً للبرادي. تركت حرب المخيم آثارها في وعيه وتصوراته. فتراه يتساءل عن حلم العودة إلى فلسطين، ما دامت العودة إلى البارد دونها عوائق وحواجز كثيرة. لذلك صار يرى «الاعتراف بإسرائيل» من المسلّمات لتحقيق العودة. وإلا فالحل بالتوطين ما دام الفلسطيني محروماً من حق التملك. أما المفاوضون باسم الشعب الفلسطيني فلهم أهدافهم ومصالحهم الخاصة، ومعاناة الفلسطينيين هي آخر ما يهمهم تماماً كما فعل عباس زكي في عدم وفائه بتعهداته لأبناء البارد، «فقد قبض المليارات وذهب العام الماضي ليصرفها في إتمام عرس لابنه في مصر»، حسب ما زعم، عوض رفعه المعاناة عن أبناء المخيم.