Strong>وائل عبد الفتاحعندما ظهرت صور عمر سليمان في الشوارع، قامت الدنيا ولم تقعد. اختفى الخبر، لكن الصورة بقيت شاهدة على حرب أطرافها مجهولة. هل هم هواة سياسة يدافعون بآخر حجر ضد طوفان جمال مبارك، أم هي حرب مؤسسات؟ السرّ في الصور، التي أجّجت نار حرب «الخلافة»

واثقون في معركة قلقة



حرب بالصورة. مجموعة مجهولة نفّذت مهمتها في الليل. وفي الصباح كان سكان أحياء مهمة في العاصمة يمرون بنصف لامبالاة قرب ملصقات تطالب بترشيح مدير الاستخبارات المصرية عمر سليمان إلى انتخابات الرئاسة المقبلة.
وقبل الانتباه الكامل من عناصر الأمن السريين، اتصلت المجموعة بالمصوّرين الصحافيين. هنا تحولت العملية الليلية إلى حدث اهتزّت له مؤسسات الحكم، من القاهرة إلى واشنطن، حيث كان الرئيس حسني مبارك وابنه ومدير الاستخبارات.
صورة مدير الاستخبارات كانت ممنوعة على الصحافة قبل سنوات، ولم يكن مسموحاً للصحافيين بحضور جلسة التجديد له.
كُسر الحظر عندما نشرت الصورة في صحيفة إسرائيلية، ونقلتها صحف مستقلة باستحياء. مغامرة تحولت إلى تقليد كلما جرى الحديث عن صراعات داخل نخبة الحكم.
الصورة ظهرت هذه المرة خارج الجدل الصحافي، أصبحت في الشوارع. هذا ما أرادت المجموعة المجهولة إيصاله، عبر نشر صور صحافية عن وجود ملصق عمر سليمان في قلب القاهرة.
المجموعة أصابت هدفها، واشتعل خيط من صورة على الجدران إلى حيث يجتمع الرئيس مبارك بالرئيس أوباما، فيما الهمسات تدور حول اصطحاب الابن في زيارة «تعميد» رئاسية، كما وصفتها النميمة السياسية.
لماذا يسافر جمال مبارك مع أبيه؟ لم تظهر صور للابن مع أبيه في البيت الأبيض، وهذه نقطة تضاف إلى رصيد الرئيس وابنه من وجهة نظر حاشية واعية لأهمية الصورة. سليمان عواد، المتحدث الرئاسي، أكد أن جمال مبارك ابن بار بأبيه ويصحبه في الرحلة بدافع إنساني لا سياسي.
الصورة الغائبة هنا استغلتها مجموعات البروباغندا في الدفاع عن الرئيس وعائلته، واعتمدت فيها من دون وعي على استدعاء صور «محلات الحاج وابنه»، وكشفت فيها عن أشكال نائمة في اللاوعي تتعامل مع الدولة على أنها دكان أو شركة عائلية.
ظهور صور عمر سليمان في الشوارع يحشره في حرب معلنة مع الشعب، وينزله من البرج العالي إلى منتصف الطريق ليقابل هجمات وفورات فوضى ما بعد الصمت الطويل.
توقيت الملصق خطر؛ الرئيس خارج البلاد، والرسالة المصورة بليغة في إثبات أن المشهد في مصر أكثر اتساعاً من حرب عائلية يطالب فيها مرتزقة سياسيون باستمرار الأب للاستقرار، ويواجههم مرتزقة للابن تقوى أصواتهم في الفراغ السياسي، إلى درجة مطالبة الأب بالتنحّي. صورة محل صورة، وابن مكان الأب. هذه ألعاب تداعب وراثة العائلات والقبائل في لا وعي لا يزال يعيش في عصر ما قبل الدولة.
صورة مدير الاستخبارات توقظ فكرة الاعتماد على المؤسسات الصلبة في حل أزمة الخلافة. صور جمال في الشوارع تحل باتجاه: هناك بديل واحد.
صور عمر سليمان توقف المسيرة اليائسة إلى الوراثة. هذا ما أسعد شرائح عديدة من المعارضة. حرب الصور نجحت، إلى حد كبير، رغم انزعاج عمر سليمان نفسه، وقيل انه اضطر إلى الاتصال من واشنطن بكل الصحف ليطلب منها حذف الخبر والصورة، وهو ما أربك ماكينات الطباعة العملاقة ليلة أول من أمس، واضطرت صحيفة مستقلة إلى التخلّص من 50 ألف نسخة كاملة، لكن بعدما تناقلت وكالات الأنباء صور الملصق في شوارع القاهرة لتتحقق أهداف أصحاب الحملة المجهولين، الذين قالوا في بيانهم: «إزاء ما تردّد عن الحالة الصحية للرئيس مبارك، ومع قرب حلول الاستحقاق الرئاسي في 2011، في ظل معارضة مقيّدة ومكبّلة، وفي ظل تصاعد الحملة المدعومة أمنياً التي يقودها أنصار جمال مبارك من أجل تصعيده بديلاً رئاسياً في لحظة فارقة، فإننا نرى أن السبيل الوحيد لمواجهة مشروع التوريث هو جناح داخل النظام يحمل أحد رجاله القدرة على طرح نفسه بديلاً إصلاحياً انتقالياً في الداخل، وحامياً للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط».
غالباً هذه المجموعة المجهولة مخلصة لصورة الدولة القديمة المحمية بنواتها العسكرية، التي لا تزال مستمرة، لكنها تتعرض لانفلاتات مؤثرة.
حرب الصور لم تعد أحادية كما كانت في المرحلة الأولى من عصر الديكتاتور العادل. حضور الديكتاتور أصبح معقّداً، وصورته كذلك. صور الرئيس في كل مكان، من مكتب أصغر ضابط في أصغر قرية، إلى كشك المعلم كوتشي في وسط البلد.
صورة الرئيس دخلت بقوة في الصراع على مستقبل الحكم في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعدما حطّمت الجماهير الغاضبة في المحلة الكبرى صورة الرئيس مبارك بالأحذية. مشهد لم يكن أحد يتخيّل أنه سيحدث في حياة مبارك. رسالة مخيفة للرئيس الأب وهيبة نظامه، لأنها استعادت اللحظة الشهيرة لسقوط صدام حسين من دون الجندي والعلم الأميركيين. لكن لحظة السقوط حاضرة، بخلفياتها، حين اتفق الغضب والفوضى والخروج إلى الشوارع وتكسير رمز من رموز هيمنة السلطة. وهذه الثورة الرمزية تجاوزت فكرة السخرية أو تصغير الحاكم (رمز السلطة) إلى فكرة أخرى، وهي الاعتداء على سلطته.
سقوط صورة الرئيس في المحلّة أعاد ترتيب النظام، ليعيد مكانة المؤسسات الصلبة في مواجهة الشركاء الجدد من أصحاب المال. لكن في لحظة نقل الملكية، تسعى كل المؤسسات، قديمها وجديدها، إلى الحضور. «هوجة» صور جمال مبارك في الشارع تدار بمشاركة عائلية (يقودها ابن شقيق الرئيس مبارك)، رجال الأعمال يموّلون سراً، والأجهزة تشترك بطريقتها في حرب الصور.
كل صورة تبحث عن لحظة قوة صاحبها، بروباغندا أصلية رسمية تعطي الحكام الثقة وتجعلهم يبدون في كامل لياقتهم وسطوتهم وحكمتهم. صور تحذف كل قلق وضعف وتثبت القوة، على عكس صنّاع صور يخيفون الحكام، مثل المصوّر الأميركي الشهير ريتشارد افيدون، الذي قال له وزير خارجية أميركا الأشهر هنري كيسنجر: «أرجوك… كن لطيفاً معي». إنه واحد من صنّاع صور تظهر حالة القلق أو «ضعف القوة»، التي تعتري هؤلاء الكبار حين يجلسون أمام عدسة تبدو كأنها تحدّق إليهم.
الصور في مصر لأشخاص واثقين يدخلون حرباً قلقة. ومع كل صورة مفاجأة.

مافيا تصارع مافيا



الجمهور في مصر يعيش متفرجاً على صراع الصور في لاوعيه، بينما يعيش الوعي مرهقاً، ينام في استراحة اللامبالاة الواسعة
الدولة هي صانع الصور الأول في مصر. هذه حقيقة قديمة. تعرضت في «حرب الإرهاب» لهزة عنيفة، لم يعد المحترفون القدامى يصلحون لرسم صورة الدولة وهي في حالة حرب مع «عدو داخلي». استدعت الدولة رسامين محترفين ومنحتهم فضاءً أوسع وحرية في الحركة، تمنعها عادة عن الفضاء العام. من هنا اتسع مجال الحريات قليلاً، واستعادت الأجهزة الإيديولوجية بعض حراسها المعتزلين، وأضافت وجوهاً جديدة واكتملت خطوط «جيش التنوير» مقابل «جيوش الظلام»، وخُطّطت أرض المعركة على طريقة الحروب في أفلام بداية الدعوة الإسلامية: فريق كفار وفريق مسلمين.
لم يكن هناك مجال للحياد أو للكلام المختلف في وصف المعركة وفق تقسيم «النور» و«الظلام». معركة حياة أو موت، بالقانون أو خارجه. دافعت الدولة عن مصيرها في مواجهة «غزوات» أمراء اليوتوبيا الإسلامية وجيوش أتباعهم. اتسع حراس الدولة الإيديولوجيون ليضموا أجنحة جديدة من اليسار واليمين. نجوم ومثقفون، كتّاب ومخرجون، كلهم تحالفوا في المعركة ضد «الظلام» و«الإرهاب»، فاختاروا «النور» و«الدولة».
الألوان كانت مهمة هنا في الاختيارات. ألوان تشبه ألوان الحروب: علامات وبروباغاندا تجييش ضد عدو أليف، من داخل البيت. العدو الأليف أصبح أسير حكاية واحدة: أبرياء يقعون في فخ الفكرة النقية لمصلحة مخططات خارجية.
وفي الواقع، لم يعد العنف موجهاً ضد السلطة ورموزها الكبيرة، بل انتقل إلى مصالح الناس (مع عمليات ضرب السياحة) وصوت الرصاص والقنابل ولون الدم المرعب.
صور في اللاوعي حاربت الصور المضادة التي اخترعها أمراء اليوتوبيا الإسلامية، ولا سيما بعد هزيمة حزيران، حين سحبوا المجتمع كله إلى ساحة الندب العمومي والشعور بالعار، وفسّروا الهزيمة بأنها ابتعاد عن الدين وغضب من الله.
صورة الخجل من الذات محفورة بقوة، على الرغم من أن الهزيمة كانت بسبب عكسي تماماً (وهو أن عملية التحديث لم تصل إلى مداها بسبب الاستبداد والفساد وسوء الإدارة وعدم الكفاءة).
صانع الصور الآن عشوائي، الدولة فقدت مركزيتها، وتنوّعت المراكز، لكنها جميعاً تنتمي إلى «الباباراتزي» الباحث عن فضيحة. تُرسم الصور بسرعة وفق عقلية متوترة، قلقة، لتُهدم بعد قليل. حالات الصعود والهبوط تكشف بانوراما غير مرئية لمافيا تصارع مافيا، والشخص الصغير لا يؤدي دور المتفرج، بل المتورط في المسافة بين المتصارعين الكبيرين. صور مهزوزة لا تكشف عن شيء، بل تحجب النظر والرؤية خلف غبار الحروب.

مازوشية كاملة الأوصاف«كباريه» كان مفاجأة شركة «السبكي» المشهورة في عالم سينما «الوجبات السريعة». تحفتها الجادة، وإسهامها في عالم سينما الأفكار، كما روّجت دعاية مرحّبة بالفيلم في الصحافة والتلفزيون. بل إن فريق عمل الفيلم (المؤلف أحمد عبد الله والمخرج سامح عبد العزيز) أصبحا «ماركة مسجّلة» للنجاح (الجاد).
«النجاح» انتقل إلى التلفزيون، مسلسل رمضاني عن «الحارة» يلعب بـ«الخلطة السرية» نفسها: الحرفية والوعي البسيط الملتصق بالتصورات العمومية عن الحياة.
خلطة تستنسخ صورة للواقع، تبدو متطابقة. صورة العالم في هذه الأعمال لا تختلف عن صورته لدى المتفرج الذي يرى الحياة «مفسدة» والكوارث السياسية والاجتماعية نتيجة طبيعية للابتعاد عن «كتيّب» الأخلاق الرشيدة.
الحارة هنا في انتظار منقذ أخلاقي، ملامح صورته غائمة، بين إرهابي قديم أقرب إلى أنبياء اللحظات الصعبة، وواعظ ينير الطريق أمام شعب ضال.
«الإرهابي» عاد في «كباريه» ليكون منقذاً. بطل أخلاقي ينتشل المجتمع المسافر إلى الرذيلة. المنقذ الأخلاقي له ملامح قريبة من فرسان الأفلام الدينية، ليس بنفس جهامة الإرهابيين الذين قدمتهم السينما طوال سنوات معركتها مع «الإرهاب». ملامح وجهه لا تخلو من طيبة وسذاجة وبراءة.
يستمتع الإرهابي في «كباريه» بحمام الاستشهاد. يستحم ويغتسل ليلاقي ربه، بعدما فاز في سباق مع زملاء قرروا الهجرة مبكراً إلى الجنة. اليأس من الحياة دفعهم إلى التسابق على من يضع على جسده الحزام الناسف ويتوجه إلى الكباريه، ملعب المآسي الإنسانية ومسرح ميلودراما الأجساد والأرواح المرهقة. هو وحده مخلص المجتمع الملوّث من شروره. الإرهابي طيّب، أقل عنفاً من الآخرين. هم غارقون في الخطايا، وهو سيطهّرهم بالقتل.
إنها بشارة بالمخلّص الأخلاقي. مخلّص عابر للأزمان، يبدو الآن متصالحاً مع مجتمع غاضب على نفسه، مازوشي يحب قاتليه ويراهم على حق.
المخلّص هنا بعيد عن لعبة التسييس. ينظّف المجتمع، لا يواجه السلطة. ويلاعب الجانب المازوشي ولوم الذات التي تشعر بالعار لأسباب مجهولة. المجتمع يستمتع بسادية المخلّصين الأخلاقيين على الشاشات. الجمهور يتفرّج كل يوم على خطاياه، ويلعنها قبل النوم، ليصحو ويكررها، ويسارع بالعودة إلى الشاشة ليغسل ما تراكم من خطايا. وهكذا دورة مازوشية كاملة الأوصاف.