Strong>معاذ عابدبعد أن تستيقظ النسوة منذ الفجر، وبعد الكشف على العجين إذا كان قد «ارتاح» وأصبح جاهزاً للخبيز، تتوجه مفارش الخشب المحمّلة بالعجين إلى مخبز صغير، يقع في شارع المدارس في مخيم بلاطة. النساء لسن من كل مكان في مخيم بلاطة، لكن من كل فلسطين. ومهما تعددت طرائق العجن، فإن لقمة الخبز اليومية ذات أهمية وقيمة اعتبارية فوق كل شيء، فكانت جدتي ترسلني ومعي بعض القطع النقدية القليلة لأدفعها للخباز.
مخبز ذو سقف منخفض، وفي المكان المنخفض جداً... مكان الخباز الذي عادةً ما يجالسه شاب أو قريب، وأحياناً يحل محله ابنه الذي يغنّي، إذا كان المخبز فارغاً، بصوته المطابق تماماً لصوت المغني المصري محمد محيي.
في المخبز، والنسوة بانتظار الدور لخبز ما عجَنّ، تبدأ مسلسلات «طق الحنك» والكلام الذي لا ينتهي ابتداءً من استغابة الجارات اللاتي لم يحضرن إلى المخبز بعد، إلى فتح سيرة أغلب بيوت المخيم ونشر الغسيل من فضائح ومشاكل. بحقّ، يعدّ المخبز أفضل وكالة أنباء اجتماعية في التاريخ، فعلى مستوى الخلافات الزوجية في المنزل المقابل، يعرف بها الكل بسبب دواوين المخبز وتلاصق البيوت في المخيم.العروس التي تزوجت أول أمس، وابن أبو فلان الذي اشتغل في السلاح، مروراً بحماة بنت عمي، وانتهاءً بفضيحة بين بنت فلان وابن علان، الخباز العجوز لا يلقي بالاً لما تحكيه النسوة إلا إذا تعلّق الأمر بسيرة أحد من بلدته الأصلية أو من معارفه وأصحابه المقربين، فيقول أحياناً: «عيب يا بنات وحرام هاي نميمة، الله حرّمها». الخباز نفسه يبدأ بسرد قصص عن شبابه وصباه، حين كان ملاكماً عنيفاً حتى إنه مُنع من ممارسة الملاكمة بسبب حالة من الهيجان والجنون ألمّت به على الحلبة، فأوقف عن اللعب نهائياً كي لا يسبب مقتل خصم على الحلبة جاء ليلاكم، لا ليُقتل على يد ملاكم مجنون. للأمانة، لم أصدّق قصصه واعتبرتها نوعاً من المبالغة والعدوى من علي ماسورة «صديقنا الكذاب» الذي يتردد كثيراً على المخبز، فأصاب الخباز بالعدوى.
لكن ابنه المغني أكد القصة لصاحب له، وضربات يد والده على العجين كي يفرده تؤكد قصصه أكثر، الخباز الذي يتفتح وجهه دوماً عندما يدخل أحد على المخبز بصينية ما، فقد عرف أن هناك «صينية كفتة أو صينية دجاج بالبطاطا» أو حتى الحلويات المخبوزة فإن له نصيباً من هذه الطبخة أو تلك. وصراحة، فإني حتى اليوم أحسده فهو قد تذوّق جميع أنواع الحلويات والوجبات المخبوزة التي جاءت مع اللاجئين من بلداتهم الأصلية، فهو الوحيد الذي يعرف جيداً طعم «صواني الدجاج» من قرى يافا ويعرف كيف يصنع العكاويون حلوياتهم. هذا الخباز الذي أطلقنا عليه لقب «تايسون» لأنه ملاكم... هو من أكثر شخصيات المخيّم حظاً.