«شجرة طيبة» كان فلسطينيو مخيمات لبنان يزرعونها سابقاً في الباحات الداخلية لمنازلهم، في نوع من استذكار مشهد البيت السليب، اليوم ما عاد هذا العرف سائداً فمن باب أولى الاهتمام بالبشر قبل الاهتمام بزراعة الشجر
خالد الغربي
قبل سنوات بعيدة، كانت زراعة شجرة تين أو زيتون أو حتى «عريشة» عنب تنتصب خيمة فوق الرؤوس أمام منازل المخيمات في لبنان، أشبه بفرض عين على اللاجئين، لا سيما في أكبرها في لبنان مخيم عين الحلوة. فزراعة شجرة أمام المنزل، تعلو وتلقي بظلها الوارف على الباحة، كانت اشبه باستحضار للمكان المفقود، الحاضر في القلب، المنزل السليب في البلاد السليبة. وعلى حد ما يتذكر الناشط الاجتماعي في المخيم عصام الحلبي فقد «كان لزراعة التين أو الزيتون قدسيتها داخل المخيمات في بداية اللجوء، في نوع من حماية الذاكرة الفلسطينية والتذكير بالأصول الفلاحية للاجئين، كما التذكير بفلسطين».
اليوم، اختفت مئات الاشجار التي كانت مزروعة داخل مخيم عين الحلوة، وقد لا يثير الأمر أي دهشة أو استغراب لدى الناس هنا، فقط من هم من خارج المخيم يستطيعون ملاحظة الفارق بين مشهد عين الحلوة بالأمس ومشهده اليوم، أما السبب فببساطة حاجة اللاجئين الذين تضيق بهم مساحات المكان المخصص لهم، «الى استغلال كل شبر من أرض المخيم، فكل شبر قد يستر أسرة بكاملها، مع التضخم السكاني الهائل الذي يشهده مخيم عين الحلوة» يقول الحلبي. أما سكان المخيم فيجيبون لدى سؤالهم عن اختفاء أشجارهم المنزلية، بأن «الزراعة في المنزل» لازمتهم لعقود، لكن «البشر أهم من الشجر» كما يقول أحدهم بلهجة لا تخلو من المرارة. ومع هذا ثمة من يطالب داخل المخيم «بالعودة إلى تلك العادة وزراعة تين وعنب وزيتون كجزء من نضال وطني فلسطيني»، على حد ما قال محمد عوض الذي يسعى إلى تقديم تصور حول الموضوع سيقدمه إلى سفارة فلسطين في لبنان.
الجميزة العملاقة في الشارع التحتاني لعين الحلوة، نال منها القصف الاسرائيلي خلال اجتياح 82 فيبست لتقلع بعد ذلك بسنوات، وشجرات عنب الحاجة أم صبحي وتيناتها عند خط السكة، اقتلعت قبل عشرة أعوام، أما «بستان اليهودي» الذي كان يملكه يهودي لبناني من عائلة ديوان، ومساحته كانت قبل عام 1982 توازي ثلث مساحة المخيم، فقد بنيت مئات الوحدات السكنية الصغيرة بداخله، وشيّدت فيه احياء شعبية معدمة، منها «حي اوزو» الذي يعدّ الاكثر بؤساً، أما بعض المساحات الزراعية الصغيرة جداً التي كانت سابقاً في طرف المخيم الجنوبي لناحية درب السيم، فقد تحولت الى مواقع لتجميع الخردة. قصص أخرى عن «تصحر» المخيم يرويها ابناؤه. وسط كل هذا لم يعد باستطاعة نسمة الهواء المرور في أزقّة عين الحلوة. «انت فين والشجرة فين؟» قالها الحلبي.
قلة قليلة من ابناء المخيم ما زالت تصر على زرع شجرة. وهو ما فعله أخيراً محمود علواني في حي الزيب في المخيم «الشجرة رمز الصراع مع الصهاينة، ها هم قد جرفوا الاراضي واقتلعوا الأشجار المثمرة، وأن تزرع شجرة في عين الحلوة وسط المعاناة فمعنى ذلك تأكيد استمرار الحياة والتمسك بأرضنا وشجرنا»، فلسطيني آخر هو محمود قدورة، قال إن شجرة التين العملاقة المزروعة في الباحة الداخلية لمنزله العائلي زرعها والده قبل عقود طويلة «وتفتح وعيي عليها. وقد أوصاني والدي باقتلاعها بعد وفاته وزرعها في أرض يملكها جدي في بلدة عكرمة في فلسطين المحتلة، وهو وعد أوصيت بدوري اولادي أن ينفّذوه من بعدي». ويناشد قدورة أبناء شعبه بالاهتمام بزراعة شجرة مثمرة، لها علاقة بالزراعات التقليدية الفلسطينية، التزاماً بقضية الأرض المسلوبة وبواجب تحريرها.


تفاح معلل

يتذكر المهندس محمود جمعة كيف أن والده كان يبيع محصول شجرة التين التي كانت داخل منزله في عين الحلوة، لأبناء التعمير في صيدا، «ربع ليرة كل يوم على مدى اسبوعين» بينما كان هو يحوّل ثمار شجرة التفاح المزروعة في دارة سيده (جده) في المخيم، إلى معلل، بعد تغطيسه بالسكر الملوّن، ثم يبيعه لأطفال عين الحلوة. ويلفت الى أنه إضافة الى الوظيفة الوطنية لشجرة الدار كانت للشجرة وظيفة اقتصادية أيضاً. ويطالب جمعة اليوم بضرورة إيجاد مساحة خضراء داخل المخيم مهما كانت صغيرة، لتكون متنفساً ولو صغيراً في مخيم بات كتلة من الإسمنت الأصم.