الحسكة | لم تعد محافظة الحسكة عاصمة سوريا الزراعية، فالتراجع المطّرد لإنتاج سوريا من القمح والقطن، وتقلّص المساحات المزروعة بسبب وقوعها في مناطق سيطرة الجماعات المسلحة، إضافة إلى انحسار مستلزمات الإنتاج الزراعي وعدم توافرها، وارتفاع أسعارها على نحو كبير، في ظل غياب الدعم الحكومي والتأخر في تمويل الفلاحين. كلّ تلك العوامل أدّت إلى محاولة بعض الفلاحين التكيّف مع الأوضاع المستجدة، عبر الانتقال إلى زراعات جديدة، إلا أنّ أبرز نتائج هذه المستجدات، وأكثرها خطورة، هو هجر العديد من الفلاحين لأراضيهم، وتخليهم التام عن الزراعة.
تراجع المحصول لأقل من 12%

بالعودة إلى إحصاءات وزارة الزراعة السورية المتعلّقة بإنتاج محصول القمح، يتبيّن مدى الانحدار النسبي للمحصول، لدرجة تهديد الأمن الغذائي لسوريا، وتحوّلها من بلد مصدّر للقمح، إلى بلد مستورد. الأمر الذي تؤكده العقود الأخيرة التي وقعتها المؤسسة العامة للحبوب، لشراء كميات قدّرت بـ 200 ألف طن من القمح. إحصاءات وزارة الزراعة تقول «إن إنتاج سوريا من القمح بلغ 3 ملايين و900 ألف طن قبل الحرب» لينحدر الرقم عام 2012 إلى مليون و600 ألف طن، وفي عام 2014 حوالى 540 ألف طن، بينما يبلغ في العام الحالي قرّابة 420 الف طن، حتى الآن، ما يعني أن الإنتاج انحدر إلى قرابة 12% عمّا كان عليه في قبل الأزمة». وبرغم تقديرات وزارة الزراعة، حول أنّ «الإنتاج سيصل إلى 3 ملايين و300 ألف طن، منها قرابة 800 ألف طن في الحسكة»، إلا أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، كما لم تساعد الظروف الجوية على زيادة إنتاج المحصول. ما تسبّب بإحباط كلّ التصريحات المتفائلة التي سبقت بدء التسويق لهذا العام.
أمام كل زيارة لمسؤولي الزراعة في سوريا، يعود فلاحو الحسكة لتكرار مطالبهم بضرورة توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي، وتمويل الفلاحين في الوقت المناسب، أي مطلع أيلول، إلا أن التمويل يتأخر غالباً إلى نهاية العام، ما أدى للعزوف التدريجي عن زراعة القمح، وخاصّة بعد الانقطاع الطويل للكهرباء، وغلاء أسعار المحروقات والأسمدة، وعدم توافرها. مدير زراعة الحسكة، عامر سلو، شرح لـ«الأخبار» أسباب التراجع لإنتاج القمح، قائلاً إنّ «قطاع الزراعة، ونتيجة للظرف الأمني جرى استهدافه، ما أثر على نحو كبير على المساحات المزروعة، وأدّى لخروج قسم كبير منها من الخدمة، إضافة إلى محاربة الفلاح في قوته، من خلال قطع الطرقات، وعدم وصول مستلزمات الإنتاج الزراعي». ويلفت سلو إلى أن «الحسكة أنتجت وحدها هذا العام قرابة 700 ألف طن، والإنتاج موجود، غير أنّ التأخر في صرف الفواتير، وفي وصول مستلزمات الإنتاج الزراعي، وقلة مراكز الشراء، التي اقتصرت على مركزين فقط، وارتفاع أسعار النقل، والظروف الأمنية التي عاشتها المحافظة، أدت إلى إحجام الفلاحين عن تسليم محاصيلهم لمراكز الشراء الحكومية، وتهريب قسم منها باتجاه ديرالزور، والرقة». وهو ما أكده رئيس اتحاد فلاحي المحافظة، محمد خليف، الذي قال إن «تأخر التمويل، وتحديده ضمن مناطق محددة أدى لانحدار كبير في إنتاج القمح».
الزراعات العطرية... بديل جديد

في محاولاتهم للخروج من الأزمة التي باتت تخنقهم، وجد بعض فلاحي الحسكة في الزراعات العطرية بديلاً عن زراعة القمح، فانتشرت زراعة الكمون، والكزبرة، واليانسون، والحلبة، وحبة البركة، وغيرها، وخاصّة أنّ هذه الزراعات ذات دورة زراعيّة قصيرة، وتوفر دخلاً اقتصادياً جيداً للمزارعين. وبحسب نائب عميد كلية الزراعة في الحسكة، الدكتور اسماعيل المحمد، فإنّ «هذه المحاصيل بعلية، لا تحتاج إلى مياه كثيرة، وسوق تصريفها متوافر ومردودها الاقتصادي جيد». وكشف المحمّد أن «عدم انتظام الدورات الزراعية، أدّى لخروج مساحات من الأراضي الزراعية من الخدمة، أو تسبّب بالتقليل من خصوبتها، ما أثر أيضاً على نحو سلبيّ على الإنتاج على نحو عام».

الحكومة السورية: الأمن الغذائي بخير

برغم الوضع المتردّي، والتراجع الواضح في إنتاج محصول القمح، إلا أن وزارة التجارة الداخلية تؤكد عدم وجود مخاطر، أو تهديد للأمن الغذائي السوري. معاون وزير التجارة الداخلية لشؤون الشركات، عماد الأصيل، وفي حديث مع «الأخبار»، أكّد «أن حاجة سورية من مادة القمح سنوياً تصل إلى مليوني طن، وأن في سوريا موارد عدّة للمادة، وهي متوافرة ومخزّنة، وتكفي حاجة البلد لمدة عام كامل على الأقل»، لافتاً إلى أن «موضوع الخبز والقمح متابع من الجهات العليا، وفق دراسات متأنية ودقيقة، تقدّر حاجة الفرد اليومية، لتوفير احتياجات البلد على نحو كافٍ»، مبيناً أن «موسم التسلّم لم ينته بعد، وأن كميات إضافية من القمح ستصل لمراكز التسويق، برغم الصعوبات».
ووفق ما سبق، فإنه من المؤكد أن تراخي الحكومات التي تعاقبت خلال الأزمة، وعدم جديتها في توفير حاجيات الفلاحين ودعمهم بالشكل المطلوب، أدى إلى التراجع المخيف للمحصول، ولا سيّما وأن التمويل متوافر، لكنه يتأخر بسبب الروتين والبيروقراطية في اتخاذ القرارات. هذه العوائق، إضافة إلى ظروف الحرب المستمرّة، لم تتسبّب بتراجع المحصول في محافظة الحسكة فقط، بل تعدت ذلك إلى إخراج مساحات واسعة من حقول القمح من الخدمة في محافظات أخرى، مثل حلب، والرقة، ودير الزور، ودرعا، التي كانت تعد المصدر الرديف لمادة القمح، بعد محافظة الحسكة، التي اعتادت أن تنتج قرابة نصف الإنتاج العام في سوريا.