الأونروا ألّفت كورس منشدين فلسطينيين من طلابها. وفي البارد أنشئ كورس آخر لبناني وفلسطيني لتقريب شباب المخيم والمناطق المحيطة به. هكذا، أصبحت الموسيقى وسيلة للتقارب بين متنازعين
قاسم س. قاسم
ينتهي الدوام في مدرسة البيرة التابعة للأونروا في برج البراجنة. يخرج الطلاب مسرعين، كمن أطلق سراحه للتو، من بوابة المدرسة متجهين الى مخيمهم القريب. ثمة حركة غريبة، اذ كان هناك من يسير عكس تيار الطلاب المتجهين الى المخيم. تجد 50 طالباً وطالبة يتجهون الى ملعب المدرسة. يضعون حقائبهم على الارض. هل هم معاقبون أم بحاجة الى دروس تقوية في مواد لا يجيدونها؟ دقائق ويظهر الخيط الأبيض من الأسود، يتجه الطلاب الى قاعة كبيرة. «المعلمة والأستاذ» وقفا في انتظار دخول طلابهما. يكتمل عدد الطلاب في الصف، يبدأ استاذ الموسيقى، علي نظامي، بالدندنة على عوده، يخرج الأطفال الخمسة، الذين لم تتجاوز أعمارهم الثالثة عشرة أوراقهم. الأوراق بين أيديهم تحتوي دوائر سوداء، أو بيضاء، نوتات في سلّم موسيقي ما.
في القاعة الكبيرة جلس الطلاب بانتظار بدء درس جديد. درس اليوم عبارة عن شرح لطريقة قراءة النوتات بدقّة، وكيفية تحديد المدة الزمنية الفاصلة بين واحدة وأخرى. النوتة المستديرة، الكاملة ونصف الكاملة، أسماء سيحفظها الأطفال جيداً، لأنهم يجب أن يعرفوا ما تعنيه كل واحدة منها. لحظات ويبدأ التدريب على السلّم الموسيقي، او «الصولفاج». أصوات الأطفال تقع في أذنك وقوع صوت الإنشاد، وكأنهم مجموعة رهبان يرتّلون صلاة ما.
الضجة المحيطة بالقاعة التي جلسوا فيها لم تؤثر على تركيزهم، إذ كانت أصواتهم أعلى من أصوات السيارات و«زمامير» الدراجات النارية المارة بقربهم. تمايل الطلاب طرباً على وقع أنغام أصواتهم التي ملأت فضاء المدرسة. تستمع الى أصواتهم، أول ما تلاحظه هو طغيان صوت الإناث على صوت الذكور. هكذا، يقف «أستاذ علي» وبيده عوده ليردد الأطفال خلفه السلّم الموسيقي الشهير «دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دو». ترتفع أصوات الاطفال وتنخفض مع ارتفاع حدة ضرب الاستاذ على وتره. بعضهم لم يكن ينظر إلى ورقة النوتات التي أمامه، لأنه حفظ السلّم الموسيقي في منزله. ينتهي التدريب على «الصولفاج»، وينتقلون الى درس آخر هو غناء المجموعة لأغنية تراثية هي «ع الأوف مشعل».
الأغنية التي تضم أكثر من 12 مقطعاً موسيقياً، يجب الانتهاء من التدرب عليها قبل نهاية الشهر. يبدأ الطلاب بترداد الأغنية على وقع دندنات عود الأستاذ علي. الأغنية تراثية ومعروفة لجميع الفلسطينيين، لكن بالنسبة إلى الاطفال كانت هناك صعوبة في حفظها، خصوصاً لأنهم سيحفظونها باللهجة البدوية الفلسطينية. لكن بالطبع، ولأن طلاب الموسيقى هم أطفال كان بعضهم يشعر «بالزهق»، مثل لطفي خليل الذي تحجج بدخول الحمام أكثر من مرة كي «يكزدر» في ملعب المدرسة. لكن، رغم العدد الكبير للطلاب في الصف، سينخفض تدريجاً ليصل الى 30 طالباً جاداً، وسيفتح لهم المجال لتعلم الموسيقى في الكونسرفتوار بعد ثلاث سنوات.
أطفال مدرسة البيرة هم جزء من مشروع كبير اسمه مشروع «السنونو»، الذي سيستمر لثلاث سنوات، وكانت قد طرحته إليانا رستروبوفيش مديرة معهد رستروبوفيش فيشنفيسكايا للموسيقى في باريس، على الاونروا التي وافقت عليه. الهدف منه هو «المحافظة على تراث الموسيقى الفلسطينية، واستخدام الموسيقى وسيلة لعلاج الأطفال الذين تعرضوا لصدمات، بالإضافة إلى إغناء الحياة الثقافية للاجئين الفلسطينيين»، كما قالت رستروبوفيش لـ«الأخبار».

الموسيقى وسيلة لعلاج الأطفال الذين تعرضوا لصدمات
المشروع الذي طرحته السيدة، لا يشمل مخيمات لبنان فحسب بل يضم مخيمات الضفة الغربية، سوريا، والاردن. تضيف: «عند انتهاء المشروع في العام الجاري سيقام حفل غنائي مشترك عبر الأقمار الصناعية وسيتشارك الغناء الاطفال من مختلف المخيمات».
أما بالنسبة إلى منسّقة المشروع، لينا الغول، وهي على تواصل دائم مع الأطفال، فقد رأت أن «الطلاب موهوبون، ومنهم من يحب التعلم على العزف على الآلات الموسيقية». «كورال "السنونو» ليس الأول من نوعه الذي يضم شباباً فلسطينيين مهتمين بالموسيقى. إذ منذ قرابة شهر قام أنشد «الكورال اللبناني الفلسطيني»، 15 أغنية تراثية لبنانية وفلسطينية على مسرح بيروت. الكورس كان جزءاً من مشروع «النهوض المبكر في البلدات المحيطة لمخيم نهر البارد» الذي أقامته وكالة الأمم المتحدة للتنمية. هكذا، كانت مهمة الكورس هي التقريب بين أبناء مخيم نهر البارد مع أبناء القرى المحيطة بهم، وخصوصاً بعد معارك البارد التي تسببت بـ«نفور فيما بيننا فكنت أكره اللبنانيين لأنني حسبتهم سبباً في خراب المخيم»، كما يقول أحد المشاركين. تعرّف شباب البارد إلى الكورس من خلال الجمعيات التي يعملون فيها عندما عرضت الفرصة عليهم. استطاع الكورس اللبناني ـــــ الفلسطيني بالفعل أن يكسر الحواجز بين أبناء البارد والمناطق المحيطة به، إذ يقول أحد الشبان الفلسطينيين المشاركين إنه أصبح يزور أصدقاءه في القرى القريبة، لكن المشكلة أن «أصدقائي لا يستطيعون أن يزوروني في المخيم لأن الجيش لا يسمح لهم بالدخول في بعض الأحيان».


لا يخاف أعضاء كورس المنشدين الفلسطينيين الذي ألّفته الأونروا، ألا يجدوا أعمالاً حين يتخرجون، فمهنة المطرب غير مشمولة بلائحة المهن الممنوعة. هكذا يسخر أحدهم من أن الشغل بـ«الطرب هيدا ع القليلة ما بدو كفيل». وينبش هؤلاء من الذاكرة أسماء موسيقيين فلسطينيين اشتهروا، منهم صبري الشريف الملحن والموزع الذي أدار أعمال الأخوين رحباني، ويروي عنه الزميل صقر أبو فخر أن سعيد عقل اصطحبه الى رئيس الجمهورية أيامها سائلاً: «مش حرام هيدا الزلمة يموت فلسطيني؟"» ومنهم أيضا عازف الكمنجة الشهير عبود عبد العال، وجهاد عقل، وعبد الكريم قزموز أهم عازف رق في العالم العربي.