قد تكون الغارة الجوية التي شنَّها سلاح الجو الإسرائيلي في قطاع غزة، يوم أمس، مشابهة لآلاف الاعتداءات السابقة، كما أتى ذلك، بعدما أعلن العدو سقوط صاروخ في منطقة خالية متاخمة للحدود مع غزة. مع ذلك، فإن مبادرة العدو إلى شن هجومه تأتي ترجمة لمعادلة يعمل على تكريسها إزاء القطاع عامة، وحركة «حماس» خاصة، وتقوم على تحميل الأخيرة مسؤولية أي صاروخ ينطلق من أراضي القطاع اتجاه الأراضي المحتلة.
وبرغم أن العدو يدرك أن كثيراً من، أو كل، الصواريخ التي أطلقت في المدة الأخيرة لم يكن لحركة «حماس» علاقة بها، بل كانت جزءا من محاولة إحراجها، وامتدادا للصراع الذي تخوضه مع الجماعات السلفية، فإن صانع القرار السياسي والأمني في تل أبيب يحاول أن يبلور «لائحة أثمان» إزاء كل حدث أمني مع القطاع، كلٌ بحسبه وبنتائجه.
أيضاً، يهم القيادة الإسرائيلية أن تبدو كمن عزَّز قدرة الردع بعد الحرب الأخيرة على القطاع منذ عام، وهو ما يفرض عليها ألا تمر مرورا سريعاً إزاء كل حادثة يمكن أن تخدش هذه الصورة. كما تخشى إسرائيل في هذا السياق أن يُفهم سكوتها على هذه الصليات «المتواضعة» كمؤشر ضعف نتيجة الخشية من التدحرج نحو التصعيد، وفي النتيجة المسّ بقدرة ردعها ما قد يؤدي إلى تشجيع الأطراف التي تقف وراء الصواريخ.
وكما في قضايا أمنية وسياسية كثيرة، يحضر الاعتبار الداخلي والتنافس الحزبي وأيضاً بين المعسكرات وداخلها، في حسابات رأس الهرم السياسي ممثلا ببنيامين نتنياهو. منذ الحرب الأخيرة وخلالها؛ فقد احتد التنافس الحزبي والشخصي داخل معسكر اليمين على خلفية الموقف من الإستراتيجية الواجب اتباعها إزاء المقاومة في غزة بين من: يدعو إلى الحسم العسكري مع ما ينطوي عليه من احتلال وتدمير شامل للقدرات، وآخر إلى الاكتفاء بالردع وتدفيع الطرف الفلسطيني الأثمان الباهظة.
وامتد التنافس داخل معسكر اليمين إلى ما بعد وقف إطلاق النار، وبلغ حد التباين في تقييم نتائج الحرب نفسها. تحديداً بين من رأى أن إسرائيل انتصرت، وهو ما لم توافق عليه غالبية الجمهور الإسرائيلي، لكونها عززت ردعها؛ وبين من يرى أن الخسائر البشرية الباهظة التي دفعتها إسرائيل ذهبت سدى لكونها لم تؤد إلى الحسم العسكري.
نتيجة ذلك، بات نتنياهو أكثر حساسية وحذرا من استغلال أي عملية إطلاق صاروخية إذا لم يبادر إلى الرد بما «يتناسب»، وليؤكد أن إسرائيل في موقع متقدم على مستوى الردع. وهكذا مع كل صاروخ يسقط جنوب إسرائيل، ومع كل اعتداء إسرائيلي في القطاع، يستحضر جميع الأطراف في الداخل الإسرائيلي نتائج الحرب الماضية. وكل منهم يسعى إلى توظيف ما يحدث لمصلحة التقدير الذي يتبناه.
مع ذلك، يبقى للصليات الصاروخية، والردود الإسرائيلية عليها، خصوصية محددة في هذه المرحلة، لكونها تتزامن مع المفاوضات التي تجري وفق معادلة التهدئة مقابل رفع الحصار. ويبدو أن «حماس» تنطلق في هذه المفاوضات من رؤية مفادها أن العدو يتخوف من أن يؤدي استمرار الوضع الحالي في القطاع إلى انفجار أمني جديد واسع، وهو ما يفسر وجود استعداد ما لدى قادة العدو، للبحث في هذا المسار الذي لم يُستنفد حتى الآن.
على خلفية هذه الأجواء التفاوضية، يوجه قادة «حماس» رسائل ضغط يحذرون فيها من أن رفع الحصار عن القطاع هو الضمانة الوحيدة لاستمرار الهدوء. ويدرك مسؤولو الحركة أن آخر ما تريده إسرائيل عامة، والحكومة الإسرائيلية الحالية خاصة، تجدد المواجهة مع القطاع، لكونها ستُعزز صورة فشل الحرب الأخيرة. وأيضا نتيجة الرؤية التي تتبناها حكومة نتنياهو، وخاصة بعد الاتفاق النووي مع إيران، فهي ترى أن الانشغال في أي قضية سياسية أو أمنية أخرى، هو انحراف وخروج عن الأولوية التي تحقق المصلحة القومية.
في المقابل، يُقدِّر العدو أن آخر ما تريده فصائل المقاومة في القطاع، الذهاب نحو مواجهة واسعة تؤدي إلى المزيد من تفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي والاجتماعي.
وبين حدّي الإقرار بضرورة تغيير الواقع القائم في القطاع، وتقدير كل من الطرفين أن الآخر حريص بقدر لا يقل عنه على تجنب تجدد المواجهة، تأتي الغارات الإسرائيلية المحدودة، وإن كانت من موقع الرد، كجزء من الرسائل السياسية والأمنية التي تؤكد إسرائيل بها أنها لا تتهاون مع كل «مس بأمنها».
مع ذلك، تعكس هذه الضربات الجوية، برغم أنها في موقع الرد، حرصاً إسرائيلياً على تجنب حشر المقاومة حتى لا تدفعها إلى رد مضاد يؤدي إلى تدحرج لا يريده أي منهما على الأقل، حتى الآن.