بين غزة وفلسطين في المهجر
ساقتني قدماي منذ اللحظات الأولى التي حطتا فيها على أرض «أبو شفيق» سابقاً (رومانيا)، إلى البحث عن شفاه تتكلم العربية، بعدما كلّ فمي من التحدث باللغات اللاتينية، وإذ بي أهرول نحو كشك صغير للشاورما مظلل بلافتة صغيرة تنتهي بكلمة صغيرة باللغة العربية «حلال». «وحياتك سندويش شاورما ع ذوقك»، حدق الرجل في مبتسماً وقال «الأخ عربي؟»، «عربي عربي من لبنان» هكذا أجبته، فما كان من الرجل إلا أن صافحني وقبّلني وأهّل بي قائلاً «محسوبك أخوك أحمد من غزة»، «أه من فلسطين» ورحت أسرد له قصة عشقي لفلسطين وكم أتمنى أن تطأ قدماي يوماً ترابها، ففاجأني بقوله «زيك أنا بحب أنزل فلسطين وغزة»! «يا خيّي عفواً عالسؤال، بس ليش ما بتقول فلسطين أو دايماً عم بتردد فلسطين وغزة؟ ما الأرض واحدة» قلت له، فابتسم الرجل الذي تجعّد جبينه في ريعان شبابه متسائلاً إن كنت لا أشاهد التلفزيونن أو أقرأ الجرائد «غزة بلاد... وفلسطين بلاد»! هكذا، يبدو أن ما يحكم العلاقة الفلسطينية ـــــ الفلسطينية في الشتات المعايير ذاتها التي تحكم مجتمعاتنا في المخيمات، أو داخل ما يعرف بمناطق السلطة، هنا كما في الداخل، من أين أنت قادم؟ من غزة أم الضفة؟ «حمساوي ولّا فتحاوي ولّا جبهاوي؟»، السفارة الفلسطينية هنا تتعامل مع رعاياها مثل الاحتلال. أن تُنهي معاملاتك باحترام أو تستأذنهم بأوراق «لمّ الشمل» من سابع المستحيلات، فضلاً عن الفروقات الطبقية بين أبناء الجالية الواحدة، حيث تجد أموالاً كأموال هارون لا تأكلها النيران كما تجد من لا يستطيع جني قوته اليومي، ولا تآخي بينهم. كلٌ يغني على ليلاه. وما أصعب تلك الكلمات التي أنهى أحمد بها الكلام: «الصهاينة سرقوا أرضنا، بس نحنا ليش صهاينة بحق ذاتنا». تناولت الشاورما «الغزاوية» وتمنيت أن تصبح «فلسطين عربية» يوماً.
* أبو شفيق: لقب عربي للرئيس الروماني السابق نيكولا تشاوشيسكو
حسين الجمّال ـــــ اليونان

وحدة حال

تعرف يا حسين؟ لم أسمع يوماً عن حال كهذه، على الأقل بحسب أقاربي في ألمانيا مثلاً. يقولون إن جميع الفلسطينيين هناك يعيشون «وحدة حال». أغلبهم لجأ إلى هناك بطريقة غير شريعة، لإيجاد حياة أفضل بغض النظر عما إذا كانوا قادمين من مخيمات اللجوء أو فلسطين نفسها. وربما هناك أشخاص يشبهون بائع الشاورما أيضاً في ألمانيا، لكني أكيدة أن نسبتهم ضئيلة.
أتعرف؟ ذكرتني بقريب لي سافر منذ بضع سنوات إلى ألمانيا. قريبي ذاك، لبناني الجنسية لكنه عاش طوال حياته هنا في مخيم القاسمية، درس في مدرسة الأنروا، وخرج منها مبكراً ليعمل مثل باقي الشباب، حاله بالمختصر كحال أي فلسطيني يعيش في المخيم، مع فارق أنه لبناني. في القاسمية يا حسين هناك حلم يشترك فيه جميع الشباب والصبايا: السفر إلى ألمانيا، للعمل بالنسبة للشبّان أو للزواج بالنسبة للفتيات. وقريبي ذاك كان لديه الحلم ذاته برغم أن الجميع يعلم كم هو صعب التشرد مرة أُخرى، كيف يستغلّ بعض السماسرة حاجة الشبّان للسفر مقابل مبالغ مالية باهظة، كيف هي حال السفر بالتهريب، وكيف هي معاملة الألمان للمتسللين إلى ألمانيا. كان يعرف كل تلك العواقب، لكن مقابل الحلم تصبح جميع المغامرات سهلة، قريبي كاد يموت عندما وصل إلى ألمانيا بسبب الاعتقال والضرب المُبرح الذي تعرض له عندما دهم حرس الحدود قافلة المتسللين. أتعرف يا حسين ما الذي فاجأني في قريبي عندما سمعت أخباره لأول مرة من ألمانيا؟ ما فاجأني هو أنه أنكر لبنانيته! قريبي أخبر الألمان أنه فلسطيني هرب من غزة بسبب الحرب، وأنه رمى بهويته وأوارقه في البحر لحظة مغادرته! لست أدري حتى الآن إن كان يجب عليّ أن أتعاطف مع شيء كهذا، فقريبي له أسبابه التي دفعته لفعل ما فعل، لكن أيستحق الاغتراب كل هذه التنازلات؟ ليس ما يحزنني أن قريبي أنكر جنسيته، فهو ابن المخيم وتربايته، وهو لطالما عدّ نفسه فلسطينياً أكثر منه لبنانياً، لكن ما يحزنني هو الواقع الذي أصبحنا فيه، تخيّل لو أن قريبي أخبرهم أنه آت من لبنان أو من فلسطين وليس من غزة، أكانوا سيتعاطفون معه ويبقونه في ألمانيا؟ أشك بذلك، ولنكن واقعيين، فلسطين أصبحت بالنسبة للعالم قضية وحدها، وغزة أصبحت قضية مختلفة تماماً، الأقلية هي التي ما زالت تطالب بكل التراب الوطني الفلسطيني، وصوتها مبحوح مقابل أصوات المنابر التي تلعلع مطالبة باستقالة أبو مازن أو تلك التي تطالب باستقالة حماس. ما أريد قوله هو أنك على حق، ولو اختلفت المعطيات التي بين أيدينا. لكن نبقى نأمل أن تصبح فلسطين، كما تقول، عربية.
إيمان بشير