غزة ــ أسماء شاكر
من الآن وصاعداً، يحق لكل فلسطيني ممارسة الجاسوسية بصفتها مهنة معترفاً بها في فصائل «المقاومة وتحرير كل تراب فلسطين»، والاستغناء عن بطالته الحكومية والنوم فى دوائرها، نظراً لكون الجاسوسية باتت تخدم المصلحة العليا والثوابت الوطنية!
فلم تعد تلك المهنة التاريخية عاراً، بعد أن صارتْ أحد أشكال الوطنية، وأرفع مناصب الرؤوس الكبيرة فى الأحزاب الفلسطينية بصيغة (المناضل فلان الفلاني: جاسوس سابق)، ومهنة الثورجيين صغار السن، الباحثين عن لقمة عيشهم، من وراء لصق شعارات التمجيد والتخوين على جدران أهل البيت، وخصوصاً أن مفهوم الجاسوسية تجاوز مسألة التخابر مع الاحتلال الإسرائيلي إلى أحدث أشكاله وأسهلها، أي التخابر بين كلّ من الإخوة الأعداء: غزة ورام الله.
«جاسوس» هي الشتيمة الفلسطينية الأقرب إلى قلوب الجماهير المنفعلين بخطب قادتهم السياسيين، ودليل على حسن نياتهم ووسامتهم النجومية على نشرات الأخبار، من صَبغات شيب بعضهم، إلى اللحى المهذبة لبعضهم (الآخر).
فالأمر تجاوز الديباجة المعتمدة للانقسام بدعوات المصالحة والوحدة والورق المصري والإسرائيلي والفلسطيني، أو ما يمكن تسميته بالثلاثي المرِح الذى يتبادل الكُره والقُبل والاتهامات، أما الشعب فهو كفيل بالضحك عليهم، وعلى نفسه شفقة. تماماً كنكتة عدم الاعتراف المتبادلة بين الحكومتين الرشيدتَين، فبالكاد يمكن جمع الكم الهائل من النكات والفضائح التى تسقط من جيوب قادة الأحزاب الفلسطينية، تلك السخرية من النوع الذى يُربي القهر والبؤس، والرغبة فى الانتحار الجماعي.
لا حلول وسطى في الانقسام الفلسطيني، إما أن تكون جاسوساً لإسرائيل، وإما أن تكون جاسوساً وطنيّا لأحد الفصائل المناضلة والساهرة على مكائد فصيل جاسوسيّ لآخر. تلك هي لعبة كسب الوقت والدعم الخارجي الكافي، لصرف رواتب موظفي الأحزاب ورشاهم.
الأمر يدور فقط حول كلمتين: وطني وجاسوس، مع الفوارق اللغوية والحداثية الكبيرة التى طرأت على كل منهما، فالعمق اللفظي ليس المقصود تماماً، مقارنةً بالمعني المختبئ خلف حدة الانحدار الأيديلوجي للقضية الفلسطينية، وتفاوت سقف المبادئ على نحو مفجع.
لم يبعنا أحد، نحن من بعنا أنفسنا للخوف والأحزاب والأنظمة، منذ أن عددنا القضية قومية عربية، وحتى صارت في حساب القضايا «الإنسانية» ليتبناها المجتمع الدولي ببرامج التسمين والتسكين العاجلة، حتى تحوّل ترتيب الشعار الملكي للولاء، من: الله ـــــ الوطن ـــــ الملك، إلى الله ـــــ الحزب ـــــ المخيم وكوبون التموين.