تفتحت عيونها عليه، داعبت أنفها رائحة الملح، وحلمت وهي تجلس في القارب الصغير بجانب والدها الصياد، ببلدان بعيدة تبحر إليها وتخيط فساتين تخلب الألباب. كان ذلك من دون حساب إسرائيل، التي كان لها «الفضل» بوهب غزة أولى صياداتها...
أنهار حجازي، شعيب أبو جهل
لم تعرف الصغيرة التي كانت تمسك بيد والدها عندما كان يغدو مع الفجر بقاربه إلى بحر غزة، أنها ستكبر لتخلفه في مهنته. لا، فمادلين كلّاب، كبيرة إخوتها، والتي كان الوالد يصطحبها منذ كانت في السادسة متيمناً ربما بوجهها للاسترزاق، كبرت لتصبح أول صيادة بين أترابها الصيادين في غزة، تحمل مثلهم، همّ إعالة عائلتها الواقعة تحت الحصار، عوضاً عن والد أقعده المرض.
لم ألتق مادلين شخصياً، فأنا من سكان الجليل، والحصار المفروض على غزة لا يسمح بالأمر. لكننا تشاورنا: الزميل المصوّر الغزاوي شعيب أبو جهل الذي يعرفها، وأنا، واتفقنا على أن يقابلها ووالدها عند عودتها من إحدى رحلات الصيد في غمار بحر غزة الملغم بالزوارق الحربية الإسرائيلية، مسجلاً اللقاء الشفهي معهما، فأفرّغ أنا المقابلة ويلتقط هو الصور.
تحكي مادلين قصتها، تقول: «بدأت بمرافقة والدي للصيد في سن السادسة، حيث إنني أكبر إخوتي، فكنت أذهب لمساعدته. عندما بلغت الثلاث عشرة سنة مرض الوالد، فلم يكن هناك مناص، كان عليّ النزول للعمل عوضاً عنه، فأنا ابنته البكر ولا أخ كبيراً لي، والبحر هو مصدر الرزق الوحيد للعائلة، وبسبب البطالة المنتشرة في المجتمع الفلسطيني، لم يكن هناك بديل عن الصيد. هكذا بدأت أصطاد وحدي وأستغل كل ما تعلمته مع الوالد على مر السنين». لا توضح المراهقة المحجبة بم مرض الوالد، لكنها تحكي أنها كل يوم تغدو إلى عملها «الثالثة أو الثالثة والنصف فجراً، وحين يكون البحر هائجاً قد ننتظر حتى الرابعة أو الرابعة والنصف، ثم نرمي الشباك وننتظر من ساعتين إلى ثلاث ساعات حتى يصير بالإمكان التقاط الشباك من جديد وجمع الصيد، ثم نرمي الشباك من جديد، في المساء نعود لجمع الصيد ورمي الشباك أيضاً، لنعيد جمعه في اليوم التالي، وهلمّ جراً».
لكن هل هي نادمة على اضطرارها لهذا العمل؟ «البحر ليس مجرد مرحلة بالنسبة لي، تقول، البحر هو حياتي ولا أستطيع الابتعاد عنه، طبعاً التعليم مهم جداً، فطموحي إنهاء تعليمي وأن أحصل على شهادة جامعية، لكن لا يمكنني الاستغناء عن البحر».
ولكن كيف تتفادى مراهقة مثلها الإسرائيليين؟ فالبحر محتل كما كل شيء. تقول: «أبتعد مسافة كيلو متر فقط تقريباً عن الشاطئ، فالزوارق الإسرائيلية والقناصون موجودون على مسافة أبعد ببضعة كيلومترات أخرى، وكل من يجازف بالابتعاد عن الشاطئ اكثر إنما يجازف بحياته».
ألا يساعدها إخوتها؟ تجيب»بلى، في الوقت الحالي أصطاد السمك برفقة أخي كايد الذي يبلغ من العمر 15 سنة، لعدم استطاعة الوالد مرافقتي، والسبب الرئيسي أن الوالد أرسلني للصيد عندما مرض لثقته بقدرتي على الصيد، إذ إنه هو من علمني المهنة منذ نعومة أظفاري حتى صارت لدي الخبرة الكافية».
هل هذه هي مهنة أحلامها؟ «بل مصممة أزياء، فلديّ خبرة أيضاً في مجال الخياطة والتصميم، إذ إن أهل والدتي يعملون بالخياطة، ولوالدتي شهادة فيها، ورغم البعد الكبير بين مهنة الخياطة والصيد في البحر، إلا أني أحب الجهتين، ويظلّ البحر حياتي».
تضيف: «لا أجد صعوبة في التعامل مع البحر، لكن ما أستصعب التعامل معه هو كلام الناس، فكوني فتاة وأعمل في مهنة الصيد، أمر غير مقبول اجتماعياً، ولا يمكن الوقوف في وجه المجتمع هنا»، وخصوصاً أن «الكل بحكي» تضيف مادلين.
ينتظر والد مادلين عودتها مع أخيها من رحلة الصيد بقلق، رغم ثقته بها. ويستذكر كيف أنه حاول، عندما أصيب بشلل جزئي، الاستعانة بصيادين، «لأتقاسم معهم أرباح ما تمسكه شباكي، لكني اكتشفت لاحقاً أنهم يسرقونني ، وابنتي هذه تعرف الصيد من سن مبكرة جداً، عندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها طلبت مني أن تذهب للصيد، بداية رفضت خوفاً عليها، لأن البحر يغدر، وقد تتأذى بسببه، إلا أنها أصرّت، فسمحت لها، ومنذ ذلك الحين وأنا

من يجازف بالابتعاد عن الشاطئ أكثر إنما يجازف بحياته

أعتمد عليها فأرسل معها أخاها ليعاونها». ويضيف الرجل بحنوّ بالغ «قلبي معاها» كل مرة تذهب للصيد، لكنني أثق بها وأثق أنها تستطيع الوقوف في وجه البحر، أعتمد عليها أكثر مما أعتمد على أي شخص آخر هنا، وهي تجيد المهنه والجميع يحترمها لهذا. ومهنة الصيد هي مهنة ورثناها أباً عن جدّ، أما الدراسة، فلم أمنعها عنها يوماً ولن أمنعها، فستنهي المرحلة التوجيهية ومن ثم إن شاء الله تتعلم في الجامعة، حتى أن بعضهم شجعوها على دخول الكلية البحرية لفهمها المتميز للبحر وإجادتها معايشته. من جهتي، أعطيتها «الأوكي» لترك مهنة الصيد إن هي رغبت بتركها، لكنها لم ترغب بترك البحر، بل هي تريده أكثر من أي شيء آخر في حياتها، بالرغم من كلام الناس وأقاويلهم وظلمهم، وأنا أعتمد عليها وأثق بها» يقول والد مادلين.
أما الصيادة الغزاوية فتقول «أنصح كل فتاه تجيد مهنة ما بأن تستخدمها لمساعدة أهلها مادياً، وأن تعمل بها إن استطاعت، ولا تسمح للحصار بأن يؤثر عليها من أي ناحية، أن تتحدى الحصار» هكذا تنهي مادلين كلامها، حاملة غلّة النهار لتضعها تحت قدمي والدها.


شهدت صناعة صيد الأسماك في غزة جراء الحصار الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل منذ عام 2007 على قطاع غزة انتكاسة كبيرة. إذ لم يعد باستطاعة الغزاويين تصدير أسماكهم خارج القطاع، أو استيراد الأسماك من الخارج لتعويض مخزونات البحرية. وقد حاول سكان القطاع استزراع السمك من قبل، لكن العديد من المزارع الرئيسية كانت قد دمرت خلال العدوان على القطاع. يشار إلى أن إسرائيل لا تسمح للغزاويون بأن يجتازوا مسافة 32 كلم في عرض البحر، وإلا، كما جرت العادة، تطلق بوارجها الحربية نيرانها عليهم