اعتاد العرب على الاجتماع في الملمّات، وصارت هذه الصفة من سماتهم الحسنة، على الأقل هذا ما نقله التاريخ إلينا. وفي الملمّات، يتناسون الخلافات والمفرّقات، فتُركن جانباً، حتى انكشاف الغمّة، وفي بعض الأحيان، ينتهي الخلاف من أصله، كأنه ما كان. لكن ونحن في هذه الحرب الضروس، الدائرة رحاها منذ نحو 10 أشهر، لم يتوانَ بعض الفلسطينيين عن فعلهم الكارثي على مرّ سنين للوراء. فقد تعدّدت في الأيّام الأخيرة تصريحاتٌ تهاجم المقاومة، وتحمّلها مسؤولية الإبادة. هذه التصريحات، صدرت عن الرئاسة الفلسطينية، وعن شخصيات «فلسطينية» محسوبة على «السلطة الفلسطينية»، وبعضها محسوب على حركة «فتح» التي لم تستنكر تصريحات هؤلاء، ولم تعلن عن رفضها، ما يؤشّر ويوحي بأنها تقبل بهذه التصريحات، بل ربما توجّهها. وأوجّه الكلام إلى «فتح» لأنه يُوجّه ضدّ المقاومة التي مارستها «فتح» لوقت طويل، وبالتالي، فإنهم يتنكّرون لماضٍ طويل يخصّهم، يرقصون باسمه في ليلة 1/1، ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية. والكلام هذا يصدر عن الشيخ والوزير والناطق والحاذق والمتذاكي والمتباكي، وعن أب يقبض من «فتح» ومضطر للصمت مخالفة لضميره وقناعاته (هؤلاء كثر كثر).

سبق أن كتبت أكثر من مرّة على صفحات هذه الجريدة، تأييداً لـ«فتح»، ودفاعاً عنها في هجمات كانت ظالمة، تنال غالباً من تاريخها، منطلقاً من قناعة أن لا حلّ من دون «فتح»، ولا مجال لتوحيد الحالة الفلسطينية، من دون هذه الحركة التي منها أكبر نسبة من الأسرى في سجون الاحتلال. أنا فلسطيني لم أكن في مرّة من المرّات في صفوفها، ولأن لي مساحة للتعبير، كتبت ما كتبت، أمّا الآن، فأنا في مراجعة كاملة لمواقفي السابقة، من دون ندم على ما كتبت، فقد فعلت ذلك في وقت كانت فيه الظروف مختلفة. أمّا اليوم فالدم في الطرقات. لكن من أنا لأكتب عن نفسي، وما أهميتي؟ في الحقيقة ليس لي أي أهمية، وفي الغالب، سيقرأ أحد ما في «فتح» هذا الكلام، ويضحك ساخراً، أمّا بعض الرؤوس الحامية، فقد تفكّر في ضربي. في الحقيقة البسيطة، أنا واحد من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، وأشعر بخذلان «فتح»، ومثلي كثر كثر، تخذلهم «فتح» بسلوكها الحالي، بتنكّرها لقادتها، ولشهدائها، للأسماء التي علّمت الشعب الفلسطيني معنى أن يكون حيّاً ويواجه. هذه الحركة هي ذاتها، اليوم، تتنكّر لشعبها، وتستنكر عليه مقاومته.
ولمّا أستخدم تعبيراً فيه إطلاق، فذلك لأن ناطقين باسم الحركة يخرجون على الشاشات ويتكلّمون، والمفروض أنهم لسان حال «فتح» الرسمي. وإن كان الأمر غير ذلك، وهناك من لديه رأي آخر، فليخرج ويعبّر عنه. إنه لَمن المؤسف أن تصبح «فتح» كلّها مدانة، بسبب القيادة الموجودة، وبسبب شخصيات تتكلّم بعبارات مرفوضة، تستحق الإدانة، وتستحق كلاماً أكثر تقريعاً من الكلام الذي قلته أعلاه.
إنّ تحميل المقاومة مسؤولية مجزرة وقعت في قطاع غزة، يعيدني إلى مراحل كبرى من نضالنا الوطني الفلسطيني، استُهدفت فيها أبنية سكنية مدنية، ولست أوّل ولا آخر مَن يتذكّر ويذكّر «فتح» نفسها باستهداف منطقة الفاكهاني في بيروت، وبناية «عكر» لهدف اغتيال القائد العام للثورة الفلسطينية ياسر عرفات (اقرأ: «جرائم لا يمرّ عليها الزمن»، عمر نشابة، «الأخبار»، 4 حزيران 2022). هل يمكن لأحد أن يدين «فتح» أو الثورة الفلسطينية، ويحمّلها مسؤولية استشهاد 250 لبنانياً وفلسطينياً، و11 شخصاً تجمّعوا، بينما كان الدفاع المدني ينتشل الشهداء والجرحى، فانفجرت سيارة مفخخة كانت جاهزة لهذا الغرض. الأمثلة كثيرة، ويمكن إيرادها هنا، وعلى الفتحاويين الصغار، أن يتعلّموا هذا التاريخ.
فالذي جرى فعلياً، أن شخصيات محسوبة على «السلطة» و«فتح» وبيان الرئاسة كذلك، كرروا «رواية» الاحتلال، التي قالت إنّ قياديين من «القسام» كانوا في المواصي، ولذلك تم الهجوم الذي راح ضحيته عشرات الشهداء الذين كانوا في منطقة يفترض أنها «آمنة» كما يروّج الاحتلال نفسه. وزيادة على ذلك، بعض الرسميين الإسرائيليين استخدموا كلام المسؤولين «الفتحاويين» للتأكيد على روايتهم (يا للعجب). هذا إذا افترضنا فقط، أن الأمر بدأ عند مجزرة المواصي، لكن للأسف، الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يعود إلى أشهر إلى الوراء، للبحث في المواقف التي خرجت، والأداء «الرسمي» الفلسطيني، وكأنّ هناك انتظاراً لهزيمة المقاومة، من قبل الاحتلال الذي أقرّ رسمياً بمنعه قيام الدولة الفلسطينية.
السؤال المضحك الآن، أن السلطة التي تريد استمرار كل شيء مع إسرائيل، كيف ستتعامل مع هذا الموقف، هل ستقبل الآن بفكرة أنها ليست أكثر من بلدية، يخدم رئيسها ورجالاتها الاحتلال؟ بالطبع لن تقبل، وسينبري عشرات للدفاع عن موقفها، وعن «الشرعية»، وهذا حقّ، بحكم ضرورة احترام «الرأي الآخر»، لكنه رأي فارغ، فهؤلاء الذين قتلوا ياسر عرفات، لن يسمحوا للسلطة أن تكون كما تطالب في بياناتها، وفي بيانات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الذي يُستخدم عند الحاجة فقط. فضلاً عن المفاوضات التي كانت السلطة تريدها، وتسعى وراءها، وهي متوقفة منذ سنوات، لن تعود إلا لمزيد من الإذلال، كالاجتماع الذي حدث أخيراً في تل أبيب، بشأن معبر رفح، والذي طلبت فيه إسرائيل إرسال أفراد من السلطة الفلسطينية بصفة غير رسمية، لكنّ الفلسطينيين رفضوا. إذاً، هذا مستوى العلاقة، فهم ينظرون إلى السلطة بوصفها أداة تُستخدم لتنفيذ أو إكمال تنفيذ مشاريع ومخططات السيطرة الإسرائيلية، ليس على غزة فحسب، بل على الضفة أيضاً المكان الذي يفترض أن السلطة تسيطر عليه.
انتقل الحديث من «فتح» إلى «السلطة» لسبب رئيسي، أنّ الأولى تسيطر على الثانية، وسمحت باندماجهما، حتى لم يعد بالإمكان التمييز بينهما، وفي أثناء حدوث ذلك، طويت منظمة التحرير الفلسطينية، ورُفعت إلى أحد الرفوف، لتكون في المتناول حين حاجتها، فيُنفض عنها الغبار، فتُستخدم لتمرير أمر ما، وتعاد إلى الرف ذاته. وهذا ما يحدث منذ سنوات. وهنا يجوز الذهاب بالكلام نحو الجبهتين «الشعبية» و«الديموقراطية»، و«حزب الشعب»، الثلاثة لهم تمثيلهم في اللجنة التنفيذية التي تجتمع أخيراً برئاسة حسين الشيخ (بالصور واضح، حتى من دون ذكر ذلك بالبيان)، لكنهم بلا فعل مؤثّر يمكنه أن يؤرّق المتسلّطين على الشعب الفلسطيني من خلال تسلّطهم على ممثّلتهم (المنظمة). والمطلوب فعلاً الانسجام مع الذات، فالسلطة القائمة، والتي تقود المنظمة، تدين المقاومة، والفصائل الثلاثة المذكورة أعلاه، جزء من المقاومة في غزة، فهل تدين هذه الفصائل نفسها؟
مع ذلك، ورغم ما سبق، ولأن «فتح» لا تخرج من الفرد بسهولة، فالأكيد أن في «فتح» شرفاء، لن يخونوا حاضرهم، لأنهم لم يخونوا ماضيهم، كما لن يخونوا «الفدائي» الذي كانوه، والذي يعيشون في كوفيته حتى اليوم. هؤلاء يرفضون الوضع الحالي لحركتهم جملة وتفصيلاً، وهم الذين سينقلبون ويقلبون الوضع الحالي، وإلا فـ«فتح» خيبتنا الأخيرة.