يا الله، أنقذني أرجوك،

كي أنقذ الآخرين، والآتين، ثمّ الآتين، واحفظ المكان من شرور ظلمهم، هؤلاء الذين أخافهم وأعيش قربهم، بعدما أخافوا جدي أبو الحكم، وأبي، أبو جواد، وأمي.. والناس جميعاً، والمكان بتمامه، والزمن بتمامه، منذ مئة سنة وأكثر.
ها أنذا، في سريري بعدما هدّني التعب، بعد وقوف عشرين، أو ثلاثين، أو أربعين، أو ألف ساعة، وأنا أجبّر الكسور، وأربطها، وأشدّها، وأخيّط وأسمع أنين أهلها، ورجاءاتهم، وأنا الآن في عزلتي أنادي النوم، فلا يردّ عليَّ، لعلّه لا يسمعني، أعصابي مشدودة متوترة، قلبي يدقّ لمن كتبت أسماؤهم في قائمة العمليات قبل قليل، أنا هنا في عزلتي. أجمع نفسي على جسدي، وذراعيّ على صدري، ورجليّ على بطني.. أتكوّر مثل جنين، فأتذكّر أمّي، ورحيلها شهيدة في عام 2008، أحاول أن أستعيد المشهد لكنني لا أستطيع، ستارة مضيئة جداً، ضوؤها بهّار يقف في مواجهة بصري، فلا أرى شيئاً.

(فؤاد اليماني)

يا الله، دعني، أرى وجه أمي الراحلة، دعني أرى دامرها المقصّب، وأسمع دعاءها الطويل وأنا أهمّ بالرحيل إلى.. ألمانيا لأدرس اختصاص جراحة العظام، دعني أحسّ بأنفاسها.. يا الله لا تتركني أرجوك..
أمي، خريجة معهد المدرّسين، اختصاص رياضيات. هي التي أسلست إليّ مادة الرياضيات، وهي التي جعلتها عشقي الدراسي، وهي التي كانت تناديني، منذ صغري، بالدكتور جواد، وهي التي قالت لي ولإخوتي، الفلسطيني المطرود من مكان إلى مكان يشبه الريح، ولا هدأة له إلا بالشهادة. الخواجات حرمونا من المكان، ومن البيوت، ومن الشجر، ومن الحقول، والطمأنينة. خذوا الشهادات، صرّوها إلى صدوركم، كي تتذوقوا طعوم الحياة اللذيذة، كي تكونوا ريحاً لا يقوى على امتلاكها أحد. ونمازحها، نقول لها، نحن أبناء الريح، يا أمي، أرواحنا أرواح الريح، وخطانا خطا الريح.. لا تقلقي. فتصحّح لنا: أنتم أبناء هذه الأرض، وهل هناك حولنا من أرض أغلى من يافا!
أمي عاشت حياتها قلقاً، وخوفاً، ودعاء، وانتظاراً لنا نحن أبناء الريح كي نكبر، وانتظاراً لأبي عطا الناصر، الحداد الذي اقتاده الخواجات الإسرائيليون من ورشة الحدادة، من هنا، من مخيم جباليا، مع أربعة من العمال في ورشته. وقادوهم سوقاً إلى سيارات الجيب التي كنا نسميها السجون الماشية على الطرقات والشوارع لأنها مسيجة، ومحروسة بالحديد المصفح، أخذوه! ولم يعد رغم مرور السنوات على سجنه. أمي كانت تزوره، وتنقل له أخبار نجاحنا في المدرسة، تأخذ معها صورنا إليه، وأوراق نجاحنا، وتعود إلينا بأخباره غير السارة، تقول في غفلة من عقلها اليقظ: إنه يذوي مثل نباتات الحبق، صار جلداً على عظم، ثمّ تنتبه فتقول: أبوكم بخير، عاشر الحديد وغلبه، لكن، الحداد عطا الله الناصر عاد إلينا، جلداً على عظم حقاً. الرجل الذي طوى الحديد، وطوّعه، ورقّقه، ودوّره، كما لو أنه عجينة من المطاط، عاد إلينا بلا طول، بلا نضارة، بلا عضلات، بلا قوة. لقد ترك كل هذا هناك في سجون الإسرائيليين، لقد افتكّ السجن والسجّانون منه عافيته افتكاكاً، بعدما أمضى 32 سنة، من سنوات حكمه المؤبّد وقد كانت 99 سنة، ولم يخرج من السجن لأنه أنهى مدة محكوميته، بل لأن المرض اللعين/السرطان/ امتص عافيته. طبيب السجن قال في تقريره عطا الله الناصر أمامه حياة قصيرة مقدارها أيام.. أنصح بخروجه من السجن حفاظاً على سمعة إسرائيل.
أبي تعلم الحدادة، في مركز التنمية في يافا، المركز الذي امتلكه جدي لأمي، سلطان عبد الحكيم، وأمي، ابنته، تعلمت الموسيقى في المركز أيضاً، أحبت العزف على البيانو، وحلمت أن يصير للبيت بيانو تعزف عليه. المدرّسة الروسية بولينا التي تدرّس الموسيقى في المركز، قالت لها: تعلّمتِ سريعاً، يا ربيعة، فبتِ بارعة في العزف، فوثقت أمي بقولتها وصدقتها، لذلك كانت تتفاخر علينا، وقد كبرنا ولم نر آلة بيانو واحدة في حياتنا، ولم نسمع عزفها إلا في أفلام السينما أو مسلسلات التلفزيون.
أمي ذات البشرة البيضاء، والشعر الأشقر، والوجه المدوّر مثل قمر قروي صغير، أعجبت بأبي الطويل الأسمر، أحست به فعشقت النظر إليه، وهو يعمل في محددة المركز، تقول لنا حسبته ذلك الحداد الإغريقي القوي هيفيستوس الذي تحدثت عنه الأساطير الإغريقية، والذي كان محظوظاً فتزوج أجمل بنات الإغريق أفروديت، مع أنه كان يشكو من عرج، أما عطا الناصر، فكان سليماً لا عاهة يشكو منها، وتقول أمي: كنت مجنونة، فأنا بنت الباشا سلطان عبد الحكيم، اليافاوي الذي امتلك المال والجاه، والشهرة في يافا، ومن حقي أن أطير على أجنحة الخيال. أحببت عطا الناصر اليافاوي الفقير، الحداد بصورته الجميلة التي لا تخلو من أسطرة وسحر، لذا دخلت صورته قلبي، وهو يطرق الحديد المجمّر، ويلويه، ويشكله كما يشاء بذراعين كأنهما فروع شجر السنديان، ووجهه الأسمر الذي تنحدر منه حبات العرق كما لو أنها حبات لؤلؤ بيضاء.
طار عقل عطا الناصر، حين التقيته أول مرة في ورشة الحدادة، كان يعرفني، فأنا بنت سلطان عبد الحكيم، وكل من هم في مركز التنمية يعرفونني، وينادونني بالأميرة. قلت له: عطا الناصر. أنا أحبك! فابتسم ابتسامة أضاءت ورشة الحدادة كلها، وهز رأسه، فارتعش قلبي، وقال متحسراً: يا عمي.. خليني بحالي، ربي يسعدك، طبعاً لم يصدق أنني أحببته، وتركته وقتاً طويلاً ينظر إليّ، كلما صادفني واقفة في ورشة الحدادة أنظر إليه.
وطار عقل والدي سلطان عبد الحكيم، عندما أخبرته أمي بأنني أحب عطا الناصر الذي يتعلم فنون الحدادة في ورشة المركز، ظن هو كما ظنّت أمي أنني أمزح، أو أتدلل عليهما، وقالا لي قولة واحدة: اللهم اجعله خيراً، لكأنني رويت لهما حلماً.
والحق، كان عطا الناصر حلماً، أذهلتني قوته، وسحرتني القصة التي سيتناقلها أهل يافا بأن ربيعة بنت سلطان عبد الحكيم أحبّت حداداً يتعلم مهنة الحديد في مركز أبيها، وكان ردّي حاضراً لأيّ منتقد أو لائم أو معاتب، وهو أن أفروديت أحبت هيفيستوس، وهو حداد، وأعرج، ولم تره في يوم من الأيام حداداً ولا أعرج.
أبي عطا الناصر خرج من السجن بعدما أمضى فيه 32 سنة، خرج بعدما دوّخه مرض السرطان، وقد دخل إليه لأنه صنع بواريد حديد من الفولاذ المقسى، صارت سلاحاً بين أيدي المقاومين، وصنع قوالب حديدية لقنابل من قياسات مختلفة. وأبي كان سرانياً، لا يريد للشمس أن تعرف ماذا يفعل، ولا للخيال أن يمرّ بما يضمره، كان يصنع الأسلحة وقنابلها بحذر شديد، لكنه، ومع ذلك، وقع بين أيدي الخواجات الإسرائيليين لأن الوشاة المحترفين وشوا به، فظل في السجن 32 سنة، وحين خرج، خرج لرؤيتنا، وليتعرف على أطوالنا، ويسألنا بإلحاح أن نسامحه لأنه ما كان معنا، ويسأل أمي أن تسامحه لأنها لم تعش مع الحداد عطا الناصر كما أحبت، ولأن صورته تبدّلت، فما عاد عطا الناصر الحداد الذي يخافه الحديد ويخشاه!
خرج أبي، عطا الناصر، لكي يموت فيما بيننا، ولكي يصير له قبر يزار في مقبرة مخيم جباليا الشرقية.
بكت أمي على كتفي، وهي تودعني وتوصيني: داخلة على الله، وعليك يا جواد، لا تظل بألمانيا حتى لو ربطوك بحبال الحديد، لا تبق يا حبيبي! يا لصوت أمي المغموس بالدمع، المتهدج، الرجراج، الأبح، ويا لدمعها المضيء! إنّه يجول الآن في فضاء غرفتي.

ما غفلت عنه..
بكت أمي حتى بلّلت أطراف منديلها.
يا لصورة أمي الباكية، فهي إن بكت بكت الدنيا كلها.
قالت، وهي تنظر إليَّ بحذر: إذاً ستسافر!
قلت: إلى ألمانيا الجميلة.
قالت: أخاف من أنك لن تعود.
قلت: كيف تقولين هذا يا أمي. سأعود كي يقتلني الإسرائيليون.
قالت، وكأنها لم تنتبه إلى ما قلته: بنات ألمانيا قويات، وجميلات، وساحرات، ولن يتركنك تعود إليّ.
قلت، وأنا أقترب منها أكثر؛ سأعود يا ست الحبايب، الخواجات الإسرائيليون يشترون الأسلحة من أجلي وأجل غيري كي نموت، إنهم يتدربون يومياً من أجل قتلنا ببراعة.
قالت، وهي تلمّس على حقيبتي: هل وضعت كيس الأعشاب هنا. قلت: البابونج، والميرمية، والمليسة، والزعتر، والنعناع.. هنا.