«سيكون يوم غد يوماً مناسباً للخجل أكثر من الاحتفاء، فالناطقون بالعربية هم أقل الشعوب كرامةً ونخوةً وفعلاً!».
قالت هذا الكلام غضباً، لأن «إسرائيل» التي تحتل بلداً عربياً منذ نحو ثمانين عاماً، اسمه فلسطين، تواصل إبادتها وجرائمها بحق شعب هذا البلد، وحين كتبت هذه العبارة، كان عدد الشهداء يقترب من العشرين ألفاً، بحسب المصادر الرسمية، فيما تتحدّث الأخرى غير الرسمية عما قد يفوق الثلاثة والعشرين ألف شهيد، عدا أعداد مضاعفة من الجرحى، وآلاف المفقودين، ومئات الآلاف من المهجّرين في العراء والمطر، بعد أن سوَّت آلة الحرب الإسرائيلية منازلهم بالأرض، هؤلاء جميعاً يتكلمون لغتنا، اللغة العربية التي نتغنّى بها، والتي ختم الله لآخر أنبيائه بكتاب، جعله عربياً، لرجل عربي.
حياة الإنسان حقيقة مطلقة، حياة إنسان واحد حقيقة مطلقة ومقدّسة، ولها أن «من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً»، ومن قتل واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً. ولكن، وبخجل كبير، فإن هذه الكلمات لا تُعطى أهمية عند بعض من يتحدثون لغتنا، أيضاً، لا تُعطى التفاتة في «العالم المتحضّر»، في العالم الأول. وعلى ذكر اللغة، فهذا التعريف جريمة لغوية، تماماً كما تعريفنا بالعالم الثالث، لأن تبعات هذه التسميات بشعة جداً ومهولة ومرعبة على كل ما هو إنساني.
يا صديقتي، نحن لسنا عرباً واحداً، نحن كثر لكننا شراذم، نتكلم اللغة نفسها، لكننا لسنا لساناً واحداً، لقد تهنا بعيداً، وإذا كان الإنسان ما يفعل، وأنا أؤمن بذلك، فإن الإنسان ما يقول أيضاً، وما يفعله ويقوله بعضنا، يؤكد أننا لسنا واحداً، ولا نشبه بعضنا، ومعاذ الله أن يأتي يوم نشبه بعضنا فيه، إذا كنا سنصير مثلهم، نرى عشرات الآلاف من بني أمتنا يقضون ظلماً، ونستخدم لغتنا لنكذب ونبرّر ونتآمر ونتواطأ مع القاتل والمجرم الذي لا يرى جرائمه «العالم الأول المتحضّر».
كثيراً سمعنا عبارة «جريمة بحق اللغة»، اليوم، وحين يراق كل هذا الدم العربي، لم تعد لتلك الجرائم أهميتها (على أهميتها)، أن ينصب شخصٌ ما الفاعلَ، أو أن يرفعَ أو يجرَّ المفعولَ به، هناك من يرتكب جرائم أفظع، «قادة ورؤساء دول وملوك ومشايخ»، ولّيناهم أو وجدناهم ولاة علينا، نسمع منهم كلاماً، في معظم الأحيان يُراد به عكسه، تماماً كمقولة «كلام حق يُراد به باطل». يتحدثون كثيراً عن الحكمة والتعقّل مثلاً، فيما الجبن والتخاذل هما الحقيقة، يتحدثون عن نصرة الفلسطينيين «إخوتهم»، ويتآمرون عليهم، يعلنون إرسال المعونات، ويُولّون مهمة إيصالها إلى طواقم مخابراتهم بهدف التجسّس لصالح العدو، يتحدثون عن الحقوق المشروعة وهم ضالعون في التآمر لسلب هذه الحقوق. وفي اللغة أيضاً، سيقول لك قائل: «لا يجوز الخروج على الحاكم»، «لا يجوز الخروج على ولي الأمر»، هم يقولون على مسامعنا كل هذا، وهناك من سيبرر، وهناك من سيكذب، وفي أحسن الأحوال، هناك من لا يعرف الفرق بين الخطأ والغلط، خصوصاً أننا نتكلم لغةً خطيرة، كثيرة الإغواء للتأويل وفي التأويل، وللتفسير وفي التفسير.
الدم أقسى الحقائق، لا يقبل الاستعارة أو الكناية، والمجازر أقسى الحقائق، لا مجاز فيها ولا تشبيه، الدم الفلسطيني الذي ينزف، هو دم العرب جميعاً، هذه هي الحقيقة، وهذا الزمن زمنها، وما يجمعنا اليوم، ليس اللغة العربية، بل الدم العربي، الدم الفلسطيني، دم الإنسان، لأنه دمنا، ولا يحق للكاذبين التحدّث عنه وكأنهم أولياء الدم (ولو كانوا قادة وملوكاً وأمراء)، فهم ليسوا أكثر من أمثلة حية لبعض المفردات البشعة في اللغة، كالخيانة والغدر والعار. أصحاب الدم هم من يتحدثون عنه، وهم خير من يتكلم العربية في يومها العالمي، وهذه السنة، اللغة العربية هي لغة فلسطين، نطق بها كل شريف في معظم عواصم الأرض ومدنها، كانوا أكثر فصاحة من المتآمرين والمتخاذلين والمطبّعين، تكلّموا لغة جامعة، لغة الإنسانية، لغة مفهومة بسيطة وواضحة، تُميزُ بين الحق والباطل، بين الضحايا والقتلة. الخيول التي أُسرِجَت في مدينة تكساس الأميركية، كانت أكثر أصالة من الخيول العربية المربوطة في إسطبلات الخنوع والجبن لمنتحلي لغتنا. هذه السنة، اللغة العربية هي لغة أهل فلسطين، ينشرونها في العالم، «هذا دمنا وهذا نحن»، معادلة فريدة لن يفهمها الإسرائيلي وكل من معه وخلفه. الدماء ليست دليلاً على الهزيمة أو الانكسار، ولن تكون، «هذا دمنا وهذه انتصاراتنا»، ينطقونها بلهجتهم المحبّبة، ولم تكن يوماً (اللغة العربية) بهذا البهاء وبهذا الجمال، فهذه السنة، للغة أرباب مختلفون، رائعون، محدّثون ومجدّدون، إذ كيف يكون لأحد مقاومي «سرايا القدس»، أن يجعل في أمّ اللغة عبارة «ولعت، والله ولعت»، وكيف لـ«كتائب القسام »أن تخطّ من عمق ظلمة الأنفاق ما هو أصدق من كل معلّقاتنا، على جدار لواحدة من آخر القلاع التي تذود عن عرضنا وشرفنا وكرامتنا، «جئتم متأخرين، المهمة أُنجزت».
الآن، غزة عاصمة اللغة العربية بأصدق كلماتها، وإن يكن بأقساها، وفيها خير من ينطق الضاد، الضاد القابض على الزناد، والضاد الرافض للذل والهوان، وحرف ضاد الغاضبين، الثائرين والمقاومين، ويكفينا أن يكونوا وحدهم قادتنا، وأئمة لغتنا الجميلة.
غزة... دم يرفع العار عن لغة الضادّ
إحدى الصديقات كتبت على «تويتر» عشية اليوم العالمي للغة العربية: