في أيار 1967، هدّد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بمهاجمة دمشق وإسقاط نظام الحكم فيها. كانت الاشتباكات تتكرر نظراً إلى قيام إسرائيل بسرقة مياه بحيرتي الحُولة وطبرية. تسارعت الأحداث وتم تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا. حاول رئيس حكومة إسرائيل في وقتها ليفي إشكول التفاوض مع عبد الناصر بوساطة سوفياتية، لكن رئيس سوريا حينها نور الدين الأتاسي رفض، وورّط عبد الناصر في مواجهةٍ لم يكن جيشه -الذي لم يكن يسيطر عليه فعلياً- مستعداً لها، ولا جيش الأتاسي قادراً عليها، فوقعت الفأس في الرأس.
■ ■ ■

«مسكين من يواجهنا، فنحن أفضل بكثيرٍ جداً، ونعرف ماذا نفعل» (1)
قال هذه الكلمات المقدّم المتقاعد دان شايْش الذي قاتل في سيناء في صفوف الفصيلة (أ) من الكتيبة 125 التابعة للواء 200 مدرع من الجيش الإسرائيلي خلال حرب حزيران 1967، ضد القوات المصرية التي كانت مبعثرة وغير منظمة، وأفرادها لا يعلمون لأي هدف تمت تعبئتهم. لكنّ الغرور الصهيوني تبخّر في «ممر الجدي» وهو أحد مضيقين جبليين في وسط شبه جزيرة سيناء لا بد من عبورهما للتوجه نحو قناة السويس.
حوالي العاشرة من صباح السادس من ذلك الحزيران، تفاجأت الكتيبة المدرعة الإسرائيلية المكوّنة من 42 دبابة، والتي كان دان شايْش في طليعتها، بتواجد حوالي 20 دبابة مصرية على المخرج الغربي لممر الجدي. بعد تبادل بضع قذائف من الجانبين عُمّم الإيعاز التالي للكتيبة عبر اللاسلكي: «فليهرب من يريد النجاة بنفسه!» وبالفعل تراجعت 40 دبابة إسرائيلية، ولم تتبع الإجراء المتعارف عليه بأن تتمركز على المخرج الشرقي، بل هربت من الميدان، ولم ينجُ طاقم دبابة دان والدبابة الأخرى إلا بعد أن تدخل الطيران الذي أجبر الدبابات المصرية على التراجع. المفاجئ في حديث شايْش عن الحرب، هو تأكيده أنه تم استدعاؤهم عند الحدود المصرية قبل 40 يوماً من بدء العمليات الحربية! أي أن الجيش الإسرائيلي أراد الحرب ولم تُفرض عليه.
عندما حُسم الأمر في سيناء عصر الثامن من حزيران، أمر رحبعام زيئيفي -أحد القادة الميدانيين الثلاثة في سيناء- بدك مدن السويس والإسماعيلية وبور سعيد بالمدفعية، كما أمر بإعدام عشرات الآلاف من الأسرى المصريين، قضى الآلاف منهم تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية. زئيفي نفسه أصبح سياسياً ووزيراً وبوقاً لسياسة طرد ما تبقّى من الفلسطينيين (الترانسفير). بعد جيل على جرائمه، نفّذ رفاق من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» حكم الشعب بإعدامه. أمّا من بقي من مجرمي الحرب الصهاينة، فحسبه أن يتقي ما هو قادم من محاكمات بالقانون الدولي أو الثوري.
■ ■ ■

«عندما يكونون متفوقين في النيران وفي الأسلحة، يتصرفون بشجاعة. ولكن إذا توازت الإمكانات، تظهر فيهم روح الجُبن بوضوح» (2)
خَبِرَ الفريق الراحل سعد الدين الشاذلي الصهاينة في حرب عام 1948 التي تلت النكبة، وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وفي حرب حزيران 1967، قبل أن يصبح رئيساً لهيئة أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ويُشهد له أنه أدى المهام التي أُنيطت به بكفاءة ونجاح. كان الشاذلي قائداً للفرقة المكلفة بتأمين المنطقة الممتدة من وسط إلى جنوب خط الحدود الدولية بين مصر وفلسطين، وشأنه شأن آمري الفرق وأفرع القوات الرئيسية كافة في سيناء، كان خارج موقعه لحضور اجتماع مع وزير دفاع النكسة المشير عبد الحكيم عامر لحظة بدء الهجوم الإسرائيلي.
قَفَلَ الشاذلي عائداً إلى وحدته التي كانت ترابط على بعد 20 كلم من فلسطين، فوصل إليها ظهيرة السادس من حزيران. وبسرعة بديهة ومهنية عالية قرّر تغيير موقعه نحو موقعٍ يوفر حماية من الضربات الجوية، ولما كان أقرب موقع جبلي ملائم موجوداً داخل فلسطين، لم يتردد في الاندفاع إلى الأمام حيث تحصن وقواته لأكثر من 24 ساعة. وبعد إعادة الاتصال مع القاهرة تلقّى الأمر بالانسحاب، لكنه فضّل التحرك ليلاً لتجنب الانكشاف للطيران الإسرائيلي، إلا أن الفجر أدرك فرقته وهي على بعد 90 كلم من الإسماعيلية يوم الثامن حزيران، ورغم فقدان 20% من قوامها، كانت فرقة الشاذلي الفرقة الوحيدة التي لم تتفكك في تلك الحرب، وكانت آخر تشكيل عسكري مصري يعبر قناة السويس قبل نسف آخر جسرٍ عليها. كانت دروس تلك الحرب حاضرة في ذهن سعد الدين الشاذلي عندما تولى رئاسة أركان الجيش المصري ووَضَع استراتيجية عبور القناة عام 1973، تلك الإستراتيجية التي حطّمت «خط بارليف» الذي كانت القيادة العسكرية الإسرائيلية تتبجّح قائلةً إن عبوره يحتاج إلى جهود الأميركيين والسوفيات مجتمعين.
يتحذلق البعض مشككاً في دخول الشاذلي لفلسطين عام 1967 لأن الإسرائيليين لم يذكروا ذلك. ولكن الإسرائيليين يقولون، إنّ الشاذلي كان في العريش وإنه انسحب من هناك! فمن سنصدق؟ الشاذلي طبعاً.
■ ■ ■

«عبد الناصر لم يرتدع... تحمّل الضربات وضمّد جراحه... ولم يأمر بوقف الحرب» (3)
بهذه الكلمات وصف إسحق رابين (القيادي في تنظيم «البالماخ» الإرهابي خلال النكبة، وصاحب أوامر تكسير عظام المتظاهرين إبان الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى عندما كان وزيراً للدفاع) عدوه اللدود الرئيس الراحل جمال عبد الناصر؛ فقد كان رابين رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي خلال حرب حزيران، وخلال المرحلة الأولى من حرب الاستنزاف التي شنتها مصر بقيادة عبد الناصر بدءاً من يوم 12 حزيران/يونيو، أي بعد يومٍ واحدٍ فقط على الهزيمة النكراء.
لا شك في أن عبد الناصر هو المسؤول الأول عن الهزيمة؛ كيف لا وهو القائد الوطني والقومي، وهو من ترك الجيش في يد من ليسوا أهلاً للمسؤولية ليكفوه شر الانقلابات. لكن عبد الناصر تحمّل مسؤوليته بشجاعة أمام الشعب في مشهد نادر الحدوث في التاريخ، فهو لم يعترف بالرَّزِيَّةِ فحسب بل استقال على الملأ، والكل يعلم أن الجماهير الحاشدة ردّت في حينه رافضةً استقالته. تَحُول العصبة الإيديولوجية -سواء كانت ليبرالية أو إخوانية أو إسلاموية- حول أعين أغلب من يهاجمون عبد الناصر ويعلقون عليه كل كوارث حاضرنا دون أن يروا جوهر الأمر.
لقد انتقلت مصر نقلةً نوعيةً إلى الأمام في عهد عبد الناصر، رغم كل ما لازم عهده من فساد إداري، وهدر للأموال العامة، وقمع وحشي لمخابراته، وتغول للجيش على الحياة المدنية، وحظر للإعلام والنشاط الديموقراطي الحر. أصبح التعليم والصحة والعمل في متناول الجميع، ونهضة صناعيةٌ بأكثر من 1500 مصنع ثقيل وتحويلي وخفيف وغذائي زراعي. كما أن الفلاح المصري أصبح بفضل الإصلاح الزراعي مالكاً للأرض الخصبة -التي ازدادت مساحتها بنسبة الثلث- التي يفلحها لأول مرة في التاريخ على الإطلاق. فكيف يمكن لمن كانوا يعيشون في ذل وجهل ومرض تحت حكم ملكي، هو دمية في يد الإمبريالية البريطانية، ألا يعشقوا هذا الرجل ويتناسوا مصائبه؟
ليس من الموضوعية في شيءٍ شيطنةُ عبد الناصر ورميُ الكلام على عواهنه بالمطلق، ورجم عبد الناصر بالفشل والهزيمة والجعجعة. نعم تجربة عبد الناصر -الذي حكم بنفسه لا بمؤسسات- أتت بكوارث، لكنها أتت أيضاً بإنجازات ومفاخر. وعلى قاعدة مصلحة الجماهير فقط يجب أن تُقيّم التجربة.
يجمع العسكريون المصريون كافة، ولا سيما من قادوا الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973 على أن ذلك النصر -رغم عبث السادات فيه- ما كان ليتم لولا حرب الاستنزاف التي شنّها عبد الناصر، لتثبّت الأساس المادي لنصر أكتوبر -الذي كان سيختلف بقيادة عبد الناصر. أفاد كبير أطباء الكرملين يفجيني تشازوف أن عبد الناصر مات من الإجهاد الذي فاقم وضعه الصحي، فلم يكن الرجل الذي كان يعمل ليلَ نهارَ ينام لأكثر من ساعتين ولا يأكل إلا ما يبقيه حياً منذ حزيران 1967 حتى وفاته عام 1970. لسخرية القدر يطالعنا بعض المؤدلجين والشانئين الذين تعوزهم أبجديات المعرفة وخلفهم غوغاء ممن كان أجدادهم سيموتون مرضاً وجوعاً وجهلاً لولا إنجازات عبد الناصر.
■ ■ ■

قال الصهاينة: «ليس ما قبل حرب الأيام الستة كبعدها». أي نعم! لقد انتهى ما قبل حرب الأيام الستة، لكن لم ينته ما بعدها! جاءت موجات نضال ولا تزال. تراجع حلم إسرائيل في التوسع كما تبينه خريطة «من النيل إلى الفرات» على ظهر قطعة الـ10 أغورات (قطعة نقدية إسرائيلية)، وصار سعيُها لإيجاد بديلٍ لمحمود عباس أهمية لأمنها القومي، ومصافحةُ دكتاتور عربي إنجازاً، ومحاولة حماية عسكرييها وسياسييها وشركاتها من خطر المقاطعة وسحب الاستثمارات والمعاقبة القانونية ضرورة وجودية، والقدس والضفة وغزة التي سقطت كلها بأقل من ألف جندي و36 ساعة بلا قتال، صارت تتطلب فرقاً عسكرية كاملة خشية من فتاة أو فتى بقبضة يد أو أداة معدنية.
وحتى أقدم «اتفاق سلام» مع مصر وقَّع عليه المجند محمد صلاح الذي وُلد بعد جيلين من نكسة حزيران بأنه باطل، لا تؤكد ذلك رصاصاته التي أرْدَت 3 جنود إسرائيليين، بل بيانات الإذاعة والتلفزيون الرسميين الإسرائيليين اللذين وصفاه بـ«المخرّب». فلا توجد دولة في العالم تسمي جندياً في جيش دولة تبادلها الاعتراف بـ«المخرّب». هي الصفاقة والعنصرية الصهيونية التي لا ترى في أي اتفاق إلا صكاً لمصلحتها لا غير. إنّ المعركة مستمرة منذ النكبة، ونهايتها تتناسب عكسياً مع سرعة تنظيم كادحي الأمة.

هوامش:
(1) مقابلة المقدم المتقاعد في سلاح المدرعات الإسرائيلي دان شايش مع المؤرخ العسكري الإسرائيلي أوري ميلشتاين في إطار مشروعه «הוצאת שרידות» (منشورات من بقي على قيد الحياة) 23 أيار 2021. قناة أوري ميلشتاين على «يوتيوب»، تمّت زيارته في 6 حزيران 2023
(2) مقابلة الفريق سعد الدين الشاذلي في برنامج «شاهد على العصر» على قناة «الجزيرة» في 14/09/2009
(3) مذكرات إسحق رابين، ترجمة دار الجليل للدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان 2015