مرّت في 28 أيار الفائت ذكرى تأسيس منظمة التحرير قبل 59 عاماً، من دون أن تترك أية تداعيات تؤشر إلى أهمية الذكرى، سوى مقال هنا وخبر هناك. لا أعتقد أن هناك مَنْ يستغرب من هذا، فسؤال «ماذا تبقى من المنظمة؟» مشروع تماماً، ولكن ما نعتقده مشروعاً أكثر هو سؤال: ماذا تغيّر في المنظمة أصلاً حتى ينطرح السؤال الأول أصلاً؟ وقبل ذلك وبعده، لا بد من التأكيد أن المنظمة التي قادت كفاح الشعب الفلسطيني منذ تأسيسها في عام 1964 في القاهرة، وحتى ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو، غدت، بفعل هذا الكفاح أصلاً، تمثّل الكيانية الوطنية الفلسطينية بغياب الدولة، والحاضن الرئيسي لمكونات الهوية الوطنية الفلسطينية، وهذه إنجازات بالغة الأهمية أمام المشروع الصهيوني الذي هدف من جملة أهدافه، ولتحقيق أهدافه، تدمير أية مكونات لكيانية مؤسساتية مستقلة، بدأت بالتشكل قبل عام 1948، ومنع تبلور مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية.
المؤتمر الوطني الأول في القدس 1964 الذي أعلن فيه تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية

والإجابة عن سؤال «ماذا تبقى؟» يقود لفحص اشتراطات تحقيق المطلب الذي غدا ولسنوات «كليشيه» مكرور في الخطاب السياسي الفلسطيني بتلاوينه الفصائلية كافة، ونعني به إعادة بناء منظمة التحرير، ذلك الشعار/ الهدف الذي حصد الفشل مرات عدة كان آخرها في الجزائر العام الفائت، ولم يخرج عن نطاق التوقيع على بيان مشترك مع صورة تذكارية الكل يبتسم فيها.
عود على السؤال: ماذا تغيّر في المنظمة؟ بداية ينبغي التأكيد أن متغيرات كثيرة حدثت في المنطقة العربية والعالم لها تأثيرها على القضية الوطنية والنضال الفلسطيني بالتأكيد.
ومع ذلك، بقي ما هو ثابت: الاستعمار الصهيوني لفلسطين بما يعنيه ذلك ببساطة وبلا مواربة بقاء قضية الشعب الفلسطيني قضية تحرر وطني، شعب يسعى لتحقيق هدفه التاريخي بتحرير فلسطين وعودة اللاجئين، ذلك الهدف الذي يمكن اختصاره بشعار/ هدف التحرير والعودة، ولا يجوز تحت أي ظرف لأية تغييرات دولية وعربية وفلسطينية أن تشطب هذا الهدف باعتباره هو القضية ذاتها، فشطبه شطبها.

أولاً: التغيّر في الخطاب الرسمي للمنظمة
التغيير الأبرز أن خطاب المنظمة، سواء الموجه لشعبنا أو للرأي العام العربي والعالمي، لم يعد خطاب حركة تحرر وطني يهدف إلى تحرير الوطن وعودة لاجئيه. ومن المعروف في كل حركات التحرر من الاستعمار الحديث، أن خطاب أية حركة يستند لحقيقة بسيطة، هي تمثل المربع الأول: وطن محتل يتطلب تحريره، وبالتالي فشعار/ هدف تحرير الوطن يغدو اللبنة الرئيسة في أي خطاب لحركة تحرر. أمّا في الحالة الفلسطينية، فمفردة/شعار/هدف تحرير فلسطين يغيب تماماً عن الخطاب الرسمي للمنظمة، لا بل وجرى مسخ الجغرافيا الفلسطينية بحدود الضفة والقطاع، فيما تم الاعتراف بالمشروع الصهيوني ودولته على 78% من أرض فلسطين عبر اتفاقية أوسلو، فيما الـ 22% موضع تفاوض لم يتم منذ 30 عاماً.
مقارنة بسيطة بين خطاب عرفات في السبعينيات في الأمم المتحدة عام 1974، والخطاب اليوم أمام الهيئات الدولية، يوضح الفارق الكبير بين خطاب حركة التحرر المعتز بقوته (المسدس في يد وغصن الزيتون في يد)، وخطاب الاستخذاء والعجز والضعف (إحمونا).
الإجابة عن سؤال «ماذا تبقى؟» يقود لفحص اشتراطات تحقيق المطلب الذي غدا ولسنوات «كليشيه» مكرور في الخطاب السياسي الفلسطيني بتلاوينه الفصائلية كافة


ثانياً: التغيّر في البرنامج
لقد تدحرج برنامج المنظمة منذ عام 1968 وحتى اليوم. ونقول عام 1968 لأنه العام الذي جرى فيه التأكيد على برنامج التحرر الوطني الذي ثُبّت في الميثاق الوطني آنذاك، والداعي لتحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين الديموقراطية على كامل التراب الوطني. منذ عام 1974 بدأ التدحرج في البرنامج: سلطة وطنية على أية بقعة يجري تحريرها، ورغم البراءة الظاهرة في صحة الشعار (ومَنْ الذي لا يريد سلطة وطنية على أرض تم تحريرها)، إلا أنه كان مدخلاً محسوباً لسلسلة من التراجعات اللاحقة لتسويق المنظمة لدى الأميركان، وهذا ما تنبهت له في حينه «الجبهة الشعبية» وفصائل أخرى، فأسسوا «جبهة الرفض»، ثم دولة فلسطينية مستقلة في حدود عام 1967، وهنا بدأ التحول بارزاً في النظر لجغرافية فلسطين، ثم دولتان لشعبين بما يتضمنه من اعتراف صريح بالمشروع الصهيوني وكيانه، ثم برنامج أوسلو للحكم الإداري الذاتي المحدود، وتشكيل السلطة بما هي بالضبط سلطة حكم إداري ذاتي مهما أطلقت على نفسها من صفات مغايرة. هذا التدحرج كان كارثياً على نضال شعبنا.

ثالثاً: التغيّر في البنية والمكانة
رويداً رويداً، وبترتيبات تأخذ في الاعتبار موازين القوى بين مختلف النخب والفئات الطبقية وتوزعها الجغرافي ونفوذها داخل مؤسسة المنظمة، جرى تأسيس سلطة الحكم الإداري الذاتي، وكان من الطبيعي، ارتباطاً بما سقناه أعلاه عن البرنامج والخطاب، وبفعل موقع نخبة السلطة الجديدة وعلاقاتها مع النظام العربي الرسمي ودولة المستعمرين والأميركان، أن يتحول القرار فعلياً لسلطة «أوسلو» فيما تهمش المنظمة كهيكل ومؤسسات وبنى تهميشاً يكاد يلغي وجودها نهائياً وتماماً.
بناء المنظمة مضى عليه 59 عاماً من دون عملية ديموقراطية حقيقية. لا انتخابات لمجلس وطني، لا تجديد بطاقات مناضلة جديدة، قوى فاعلة خارج المبنى، ربما أكثر فاعلية ممن بداخله، قوى ممثلة بحكم التاريخ قبل عقود ولكنها في الحاضر لا تملك سوى قائد التنظيم وبضعة مرافقين، هياكل بيروقراطية متكلسة لا دور حقيقياً لها ولا وزن لها عند جماهير شعبنا. لا يستغربن أحد إذا عبّر أحدهم عن رأيه بالمنظمة بالقول: أي منظمة، إذ ينتفي حضورها تماماً وسط الجماهير.
وبعد، هل من مقومات لإعادة بناء منظمة التحرير؟ ربما يحتاج هذا العنوان إلى مقالة منفردة، لكن باختصار غير مخل يمكن القول إن هذا الموقف بالعادة يركز على العملية التنظيمية/ الإدارية لإعادة البناء عبر محورين: ضم القوى التي خارجها، وإجراء انتخابات للمجلس الوطني. رغم الأهمية القصوى والملحة لتحقيق هذين المحورين/ المطلبين إلا أنهما غير كافيين، والاقتصار عليهما يحوّل إعادة البناء لمحض عملية تنظيمية/ تقنية لا سياسية وطنية بالأساس. أولاً وقبل كل شيء ينبغي لعملية إعادة البناء أن تقوم على قاعدة التنصل الكامل من الاتفاقات الموقعة مع الصهاينة، ونعني اتفاقيات «أوسلو» وملحقاتها وتداعياتها والأهم الاعتراف بشرعية الكيان الاستعماري. وثانياً، إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني الذي جرى قبره، وتأكيد شعار/ هدف التحرير والعودة وجغرافية فلسطين التاريخية، التأكيد على خيار المقاومة بأشكالها كافة.
بتحقيق هذه الأرضية السياسية مع الإجراءات التنظيمية بمحوريها، يمكن التعويل على إعادة البناء، والتي ستعني أيضاً إحداث تغيير جوهري في قيادة المنظمة.