إنها حكاية الموت والحياة بين جنبات الوطن الفلسطيني وفي الشتات القسري. الجراح لا تزال غائرة، لكن إرادة الفلسطينيين تزداد صلابة، وتمسكهم بالعودة بات أكثر قوة رغم مرور 75 عاماً على نكبتهم الأليمة. وفي المفتاح تكمن الحكاية.تجوّلت «الأخبار» في عدد من المخيمات الفلسطينية في سوريا، والتقت شهوداً على النكبة، حين هجّر نحو 700 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، هؤلاء تسكنهم قصص التهجير ولم تغادر، تعودهم في كل يوم، فالمسافة البعيدة بين المخيم وفلسطين، قصيرة في قلوبهم.

لم ولن نبيع أرضنا وبلدنا
لم يفرّطوا بأرضهم، ولم يبيعوا وطنهم كما يجرّب أن يشيع بعض المغرضين، فبمراجعة التاريخ الدقيق، يتبيّن أن ذلك لم يحدث من فلسطينيين، ومن باعوا على قلّة مساحة الأراضي التي بيعت كانوا من بلدان عربية مجاورة، ومن عائلات معروفة حتى اليوم، وحتى من سوّلت له نفسه التفكير بمثل هذا الأمر حينها، كان يتعرّض للعقاب والإعدام أحياناً، هذا ما أكده الحاج موسى إبراهيم (أبو علي)، 90 عاماً، المهجّر من مدينة القدس، لجأ إلى سوريا، ويقطن في منطقة ركن الدين بدمشق. يقول لـ«الأخبار»: «أيّ واحد كان يبيع أرضو لليهود كانوا الأهالي يقتلوه أمام بنك بارك للصرافة، وياخدوا منّو الفلوس، ويعطوها لمدرسة الأيتام في القدس». «كان الناس يبيعوا الطحين ويشتروا سلاح ويتصدّوا لليهود، ويلّي بقول إنو الفلسطينيين باعوا بلدهم، بقلّهم هذا مش صحيح، وأنا أبو علي من القدس، بحلم باليوم يلّي رح أرجع فيه ع فلسطين. العدو طردنا، وأخد بلدنا بالقوة، وما راح يرجع إلا بالقوة. وفلسطين وطنّا وغالية علينا، وبتعني إلنا الكرامة والحرية والمستقبل، وعشان هيك بوصي أولادي وأحفادي وكل الأجيال بالتمسك فيها، وبالعودة إلها مهما طال الزمن ومهما كانت المحن كبيرة».

الأيام الحلوة في الصالحية
الحاجة وحيدة حسن أحمد (أم يحيى)، 80 عاماً، من قرية الصالحية قضاء صفد، لاجئة في مخيم خان دنون بريف دمشق، تتحدث «من القلب» عن مسيرة أهلها في فلسطين، وعن مرارة رحلة اللجوء منْ قريتهَا من خلال ما سمعته من والدها ووالدتها، وكانت هي في ذلك الوقت طفلة بعمر خمس سنوات: «حمل أبوي وأمي وكل أهل القرية أغراض خفيفة وطلعوا من بيوتهم، وتركوا كل اشي بعد ما طلب منهم جيش الإنقاذ، يلّي قال إلهم راح ترجعوا بعد 24 ساعة، لكن تبيّن إلهم بعدين إنهم تعرّضوا للكذب والخداع، وهاي إحنا اليوم بقالنا 75 سنة مشردين، وما رجعنا ويا ريت متنا وما خرجنا من بلادنا».
تتابع الحاجة أم يحيى سرد الحكاية ومن حسن الحظ ذاكرتها تسعفها على ذلك: «يا عيني على البرتقال اليافاوي الطيب يلّي كان خالي يجيبو من يافا، وناكل وتعصر إمي منّو إلنا ونشرب وإحنا مبسوطين كتير في بيتنا يلّي عمّرو والدي من اللبن، وكان الجميع يرزعوا ويربّوا الجواميس أكثر شي، وفي كل الأوقات يساعدوا بعض بكل إشي، ويجتمعوا في بيت مختار القرية علي مصطفى حلاوة، ويحكوا عن أوضاعهم ومشاكلهم يلّي بحلّوها وهُمّا متفاهمين على كل إشي، ويا ريت نرجع نجتمع هناك من جديد، لأني وحياة مين خلق الكون بحنّ لبيت أهلي وللبيارة ولكل إشي هناك، وربنا ينصر شبابنا وأهلنا الصامدين، ويلّي عم يقاوموا ويضحّوا، وإن شاء الله راح ينتصروا ويرجعوا كل اللاجئين مهما طالت السنين، وترجع الأيام الحلوة لقريتنا الصالحية وكل بلادنا».

محكوم بحلم العودة
«أنا فلسطيني لاجئ، بس أنا محكوم بحلم العودة، وبالتمسك بأرضي وبيتي وبلدي، وإذا ما رجعت أنا، فالأكيد إنو اولادي وأحفادي والأجيال يلي بعدهم رح يرجعوا ويضمّوا التراب من جديد، والشاهد رب العباد». هذا ما قاله الحاج رمضان، 90 عاماً، المهجّر من قرية دير ياسين، بصعوبة، بسبب المرض. لجأ الحاج إلى مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق، لكنه وبعد ما حلّ في اليرموك، انتقل مع أسرته للعيش في منطقة الضمير بريف دمشق.

صورة أخرى: ولادة فموت، ولكن...
تروي الحاجة فاطمة حسين (أم العبد)، 87 عاماً، من مدينة عكا، وتسكن الآن في مخيم العائدين في مدينة حمص، معاناتها وعائلتها خلال النكبة؛ فقد خرجت برفقة زوجها إلى لبنان، وكانت خلالها حبلى في شهرها السابع، فأنجبت طفلها ميتاً، نتيجة الظروف القاسية أثناء مسير اللجوء القسري وتقطّع السبل بأهلها وأقربائها الذين هُجّروا إلى الأردن وسوريا.
تقول الحاجة أم العبد لـ«الاخبار»: «أنا تزوجت بفلسطين، وحبلت بأول ولد، كانت لحظات الولادة صعبة كتير، وشفت الموت بعيني لما كنا في بلدة الصرفند بجنوب لبنان، وما كان بجنبي غير زوجي، وهو كان يشجعني ويحضنّي لما كنت أصرخ أثناء المخاض وبعد الولادة، وبعدين حفر قبر صغير ودفن فيو الطفل، وأنا عم إبكي بسبب فقدانه وهو أكيد رح يكون أحد طيور الجنة إن شاء الله».
ومثل باقي من التقيناهم، تؤكد أم العبد في حديثها أنها لن تنسى ما جرى معها ومع زوجها، وهي تعزز بأولادها وأحفادها التمسك بالعودة إلى عكا وفلسطين كلها، وتحدّثهم عن ذكريات الأرض وتريهم وتضع بين أيديهم مفتاح البيت القديم هناك في فلسطين، وأوراق الملكية التي لا تزال محفوظة لديها. تقول في الختام: «سنبقى نقول لأولادنا وأحفادنا إن عكا الجميلة هي بلدكم الأصلي، وستعودون إليها يوماً ما ولا تقنطوا من رحمة الله وهو مع شعبنا وراح ينصرنا على عدوّينا».