قسطنطين زريق: «معنى النكبة»
ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكسة البسيطة، أو بالشر الهين العابر. وإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتلي بـه العرب في تاريخهم الطويل، على ما فيه من محن ومآس.
سبع دول عربية تعلن الحرب على الصهيونية في فلسطين، فتقف أمامها عاجزة ثم تنكص على أعقابها. خطب نارية يلقيها ممثلو العرب في أعلى الهيئات الدولية منذرة بما ستفعله الدول والشعوب العربية إن صدر هذا القرار أو ذاك. وتصريحات تقذف كالقنابل من أفواه الرجال الرسميين لدى اجتماعات الجامعة العربية. ثم يجد الجد فإذا النار خافتة باهتة، وإذا الصلب والحديد صدئ ملتو سريع العطب والتفتت، وإذا القنابل جوفاء فارغة لا تحدث أذى ولا تصيب مقتلاً.
سبع دول تتصدى لأبطال التقسيم، وقمع الصهيونية، فإذا بها تخرج من هذه المعركة وقد خسرت قسماً لا يستهان به من أرض فلسطين، بل من الجزء «المعطى» للعرب في التقسيم، وإذا بها تُقهر قهراً على قبول هدنة لا مصلحة لها فيها ولا غناء.
قضية لم يعرف التاريخ أعدل منها وأقرب إلى الحق: بلد يُغتصب من أهله ليُجعل وطناً لشراذم من الخلق ينزلونه من شتى أقطار العالم ويقيمون فيه دولة رغم أنوف أصحابه والملايين من إخوانهم في الأقطار المجاورة. ومع ما في يد العرب من حق صراح، وما في بلادهم من إمكانيات، وما للدول فيها من مصالح يساوَم عليها - مع هذا كله، يقفون فُرادى في الميدان الدولي، تعاديهم الدول العظمى ويناوئهم الرأي العام العالمي، وليس لهم حليف قوي قد أعدوه لیسندهم في مثل هذا الظرف وينصرهم في صراعهم.
أربعمئة ألف عربي أو أكثر يشردون من بيوتهم، وتنتزع منهم أموالهم وأملاكهم، ويهيمون على وجوههم في ما تبقى من فلسطين وفي البلدان العربية الأخرى، لا يدرون ما يخبئه لهم القدر أو أي مورد من موارد العيش يرتادون، ويتساءلون عما إذا كان سيحكم عليهم بالعودة إلى بلادهم ليعيشوا تحت ظل الصهيونيين، ويتحملوا ما يفرضونه عليهم من أذى وإهانة، وإذابة وإفناء.
بل شر من هذا! فقد تحول التشتت والتشرد من اليهود إلى العرب. فبعد أن كان العرب لا يعترفون للمشردين اليهود بحق، وبعد أن كانت الهيئات اليهودية تسعى لدى المنظمات الدولية لحل معضلتهم بإقامة الوطن الصهيوني في فلسطين، إذا بالدول العربية الآن تستعطف هذه المنظمات لإعادة مشردي العرب إلى بلادهم الواقعة تحت الحكم الصهيوني، وتجعل ذلك شرطاً لتحويل «وقف القتال» إلى «هدنة».
وعلى الإجمال: لم يكن الوطن الصهيوني في فلسطين أقرب يوماً إلى التحقيق منه في هذه الأيام. وبالعكس لم يُصَب الكيان العربي بعدُ ما أصيب في هذه المعركة من تصدع وانهيار. وفوق الانهيار المادي انهيار معنوي يتمثل في شك العرب بحكوماتهم، واتهاماتهم لقادتهم وزعمائهم، بل شك الكثيرين منهم في أنفسهم وفي قابلياتهم كأمة، وتسرب اليأس إلى صدورهم، وتهربهم من مجابهة الخطر، وتضاؤلهم أمام عظم المصيبة. ولعمري! إن هذا الانتكاس المعنوي الروحي لأهمّ من الخسارة المادية مهما عظمت، لأن الشعب إذا تفتت عزمه وخسر ثقته بنفسه، فقد أضاع خير ما يملك وعجز عن أن ينهض بعد كبوة، أو أن ينفض عن نفسه غبار الذل والخذلان.
هي ذي بعض وجوه النكبة التي لحقت بالعرب في هذه المعركة من حرب فلسطين. وكفى بها وبأمثالها ما يدور على الألسن ويختلج في القلوب وما يشاهده ويسمع به كل منا في هذه الأيام العصيبة، دليلاً على خطورة المحنة، وشدة المأساة.

[مؤرخ سوري، ولد في دمشق (1909-2000)، وهو الذي اجترح مصطلح «النكبة». نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من الولايات المتحدة عام 1930، وتولى رئاسة جامعة دمشق، ورئاسة الجامعة الأميركية بالوكالة، ورئاسة مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية - النص المختار من كتابه «معنى النكبة» الصادر في آب من عام 1948]
■ ■ ■

موسى العلمي: «عبرة فلسطين»

مرت معركة فلسطين في دورين: ففي الدور الأول كان عبء الدفاع ملقى على عاتق الفلسطينيين. وفي الدور الثاني تناولته الجيوش العربية. لكن العرب لم يحسنوا الدفاع عن فلسطين في كلا الدورين.
في الدور الأول، كانت مواطن الضعف الأساسية في الدفاع العربي، أنّا كنا على غير أهبة، وإنْ لم نؤخذ على غرة. وكان اليهود على أهبة كاملة. وأنّا سرنا في المعركة على مقياس الثورات السابقة. وسار اليهود فيها على مقياس الحرب الشاملة. وأنّا أدرناها على طريقة موضعية، من دون وحدة، ومن دون شمول، ومن دون قيادة عامة. فكان دفاعنا مفككاً، وأمرنا فوضى. كل بلد يحارب وحده. ولم يدخل المعركة إلا أبناء المناطق المجاورة لليهود. وأدارها اليهود بنظام موحد، وقيادة موحدة، وتجنيد عام. وأنّ سلاحنا كان رديئاً وناقصاً. وكان سلاح اليهود حسناً قوياً. وأن أهدافنا في المعركة كانت مضطربة متباينة. وكان هدف اليهود كسب المعركة.
هـذه الثغرات نفسها كانت مواطن الضعف في دفاعنا، في الدور الثاني، دور الجيوش العربية: التفكك، وفقدان القيادة الموحدة، والارتجال، وتباين الأهداف. وزاد عليها التخاذل، وعدم الجد في الحرب.
وكما أننا لم نحسن العمل في الميدان العسكري، كذلك لم نحسنه في الميدان السياسي. كانت أعمالنا مرتجلة. وكانت تصرفاتنا سلسلة من الأخطاء الكبيرة. ولم يكن لنا هدف واضح، ولا خطة معينة.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا وذاك، أن حلت بنا الكارثة، وأضعنا فلسطين.
وإنما كانت هذه الثغرات انعكاساً لحالة الأمة العربية والنظم القائمة فيها. فهي في نظامها السياسي مفككة. يقوم نظامها على التجزئة. وقد انعكس ذلك على صفوفها في المعركة، فكان هذا التفكك والتخاذل. ثم إن زمامها في أيدي حكومات عاجزة. تنقصها الكفاية. والأمة نفسها لا تزال ضعيفة الوعي والنمو.
إن ضياع فلسطين كارثة شديدة بعيدة الأثر في كيان الأمة العربية. لكن الخطب لا يقتصر على ضياعها. لقد انفتحت بضياعها أخطار جديدة أشد هولاً وأبعد أثراً. وبات الكيان العربي كله مهدداً. فإن أسرع العرب لتلافي الخطر قبل استفحاله، فلذلك مجال. والوقت لم يفت. وإلا، فإن هذه المقدمات تؤدي إلى نتائجها الطبيعية.
ونحن إنما دُهينا وأُتينا، أولاً، من قبل التجزئة التي أورثتنا التفكك والتخاذل. فعلاجنا الأول في الوحدة. لنعود عصبة قوية متماسكة، وصفاً واحداً كالبنيان المرصوص.

[محام فلسطيني، ولد في القدس (1897-1984). مثّل فلسطين في المؤتمر التحضيري لإنشاء جامعة الدول العربية، وهو صاحب الحكمة القائلة «إننا لن ننتصر على إسرائيل النصر النهائي حتى ننتصر على أنفسنا» - النص المختار من فقرة «إجمال» المقدمة لكتاب «عبرة فلسطين» الصادر عام 1949]
■ ■ ■

وليد الخالدي: «قبل الشتات»

غالباً ما ينغمس أطراف النزاع في تاريخ نزاعهم، ويستحوذ تاريخ الظلم وخلفيته على المظلوم أكثر مما يفعل على الظالم.
وتتأثر شدة هذا الاستحواذ وطوله على المظلوم بعدة عوامل: فهناك طبيعة الحيف الذي حل في المقام الأول؛ ثم موقف الأطراف الأخرى من هذا الحيف؛ وأخيراً لا آخراً، مسلك الطرف المستبدّ الظالم بعد ما اقترفت يداه ما اقترفت.
وفي حالة الفلسطينيين، وهم الطرف المظلوم في صراعهم مع الصهيونية، فإننا نجد أن هذه العوامل قد تضافرت معاً لتطيل وتشدد من وطأة استحواذ التاريخ عليهم. ففي غضون سبعين سنة تقريباً، بين مطلع الثمانينيات من القرن الماضي وعام ١٩٤٨، كان الفلسطينيون هم الطرف المتلقي للضربات المتعاقبة على يد الصهيونية وحماتها. أما الصهيونية، وهي حركة سياسية استيطانية يهودية أوروبية المنشأ، فقد جابهتهم بأشد التهديدات فتكاً، ألا وهو إنكار حقهم الأصيل الثابت في ديار آبائهم وأجدادهم: فلسطين. ولم يبق هذا التهديد في حدود الافتراض؛ إذ إن عام ١٩٤٨، وهي سنة الكارثة كما يدعوها العرب، شهدت ذروة الاستعمار الصهيوني المحتومة، التي أخذت عناصرها تتجمع منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي اتخذت شكل الظاهرة المزدوجة، من حيث أنها أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل بقوة السلاح في الجزء الأكبر من أراضي فلسطين، وإلى اقتلاع الأهالي الفلسطينيين من نحو عشرين مدينة وأربعمئة قرية، غدت بأملاكها ومزارعها جزءاً من الدولة اليهودية الجديدة. وخلال عام ١٩٤٨ ذاتها، لقي عشرة آلاف فلسطيني ـ على الأقل ـ مصرعهم، في حين أصيب ثلاثة أضعاف ذلك الرقم بجروح، وبات نحو 60% من السكان الفلسطينيين آنذاك (أي 700,000 شخص تقريباً) مشردين بلا مأوى.
ولقد أبدى الرأي العام العالمي تعاطفاً مع الفلسطينيين. وانحازت دول العالم الثالث (ومنها الهند) بغريزتها إلى قضيتهم، وهي التي كانت قبل وقت قريب ضحية الاستعمار الأوروبي. كما أن الدول الشيوعية (ومنها الاتحاد السوفياتي والصين) ـ على الرغم من اعترافها بوجود إسرائيل ـ قد أعربت عن تأييدها للفلسطينيين، لأنها نظرت إلى نضالهم في سياق المعارضة للاستعمار الغربي من جهة، وبسبب اعتبارات استراتيجية من جهة أخرى. كذلك أظهرت قطاعات مهمة من الرأي العام في أوروبا الغربية تفهماً لمحنة الفلسطينيين، وهو ما يعكس مؤثرات قرون عدة من ارتباط أوروبا بالشرق الأوسط وحساسيتها له. وعلى الرغم من رضا الفلسطينيين عن تعاطف الرأي العام العالمي معهم، فإن هذا التعاطف بات عديم الأثر تحت وطأة الدعم الهائل الذي حظيت به الصهيونية من جانب الولايات المتحدة، قبل عام ١٩٤٨ وبعدها. فالولايات المتحدة تتحمل النصيب الأكبر من المسؤولية ـ في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة - عن تحريك الأحداث في فلسطين تجاه عواقبها الرهيبة عام ١٩٤٨. كما تصاعد الدعم الأميركي لإسرائيل باطراد منذ ذاك، على الرغم من أن إسرائيل قد واصلت حينها إنكارها على الفلسطينيين حقوقهم القومية والإنسانية. ولقد كان الدعم الأميركي هو الذي مكن إسرائيل ـ قبل كل شيء آخر ـ من الإمعان في هذا الإنكار. ولعل ما يلهب مشاعر الفلسطينيين بوجه خاص أن موافقة الولايات المتحدة على اقتلاعهم من بلادهم قد تمت تحت شعار تأييد القيم الديموقراطية التي يتغنى بها المجتمع السياسي الأميركي. ومن دواعي السخرية في كل ذلك، أن هناك من الدلائل ما يفيد بأن غالبية الشعب الأميركي تؤيد فكرة التوصل إلى حل متوازن للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، يضمن وجود إسرائيل من ناحية، كما يضمن من ناحية أخرى حقوق الفلسطينيين القومية، وعلى رأسها حقهم في تقرير المصير.

[مؤرخ فلسطيني، ولد في القدس (1925)، كتب بغزارة عن اللجوء الفلسطيني وحرب 1948. وأحد مؤسسي مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تخرج من جامعة أكسفورد عام 1951. وعمل محاضراً في الدراسات السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت حتى عام 1982، وعدة جامعات أخرى - النص المختار من تمهيد كتاب «قبل الشتات» الصادر عام 1987]