تُقتبسُ، أو ينبغي للفنون أن تُشتقَّ أو تستلهم مادتها من واقعٍ مُجسَّدٍ ما، أو لربما متأثرةً بما هو قائم، حتى تلك السينما التي تتحدث في مَتْن سيناريواتها عن عوالم وخيالات علمية أو عاطفية أو رُعبيَّة. حدثٌ ما سوف تُستعاد صياغتُه صورةً موثقةً أو مؤرشفةً في فيلم، وبطريقة ما يُمكن إضافة عوالمَ ومفرداتٍ فنية وصُوَريَّة تُضيف لمسَتها على أطراف أو ربما أعماق هذا الحدث، فهل كانت سينما النكبة، التي فاقت عددياً سنوات النكبة المستمرة، واقعاً؟
لا يُمكن البحثُ باستفاضةٍ في بعض سُطور وكلمات واردةٍ هنا، لكنْ، وفي الوقت عينه، يمكن تقديم توصيف عام لِجهودٍ بعضُها مُضنٍ وكلها تقريباً شحيحة التمويل، يُعنى بذلك تلك الأفلام الروائية القليلة والتسجيلية/الوثائقية الجَمَّة، التي أنجزها بالعشرات عددياً سينمائيون فلسطينيون وعرب ويساريون عالميون، مستلهمةً أو عاكسةً لواقع النكبة التي هي في جوهريتها نكبةٌ للإنسانية برمَّتها، لا لفلسطين والعرب وحدهم، وقد استشعرها بفحواها الفنُّ عموماً والسينمائي منه بالتأكيد، مع تفاوتٍ في السَّوية والأدوات والرؤيةِ والخبرة.
من الجَدارة ذكره أنَّ بدايات السينما الفلسطينية هي ذاتها بدايات السينما العربية، فقد أنجز مواطنان فلسطينيان أولَ فيلم سينمائي عربي وأول استديو تصوير وأول شركة إنتاج في الوطن العربي، في مدينة الإسكندرية بمصر. كان ذلك بعدما وصل مهاجران فلسطينيان، أصلهما من بيت لحم وعاشا بين الإكوادور والأرجنتين، إلى مصر، إنهما الأخوان إبراهيم وبدر لاما، اللذان أنجزا أول فيلم عربي «قُبلة في الصحراء». كان ذلك في العام 1926، أي بعد عقدين وسنة واحدة من صناعة الأخوين الفرنسيين أوغست ولويس لوميير أول الأفلام السينمائية عالمياً 1905. كانت نيَّةُ الأخوين لاما الاستقرار في فلسطين، لكن عوامل عدة أدّت بهما إلى النزول من الباخرة والبقاء في الإسكندرية.
بشكل موازٍ ومتزامن، أُنجزت في داخل فلسطين منذ العقد الثاني من القرن العشرين عدة لقطات وثائقية من قبل فنانين وإعلاميين، لكنها لم ترقَ إلى وُلوج عالمِ وشروطِ صناعة الفيلم، كانت فلسطين قد فتحت دُور سينما في المدن الكبرى مثل يافا وحيفا والعاصمة القدس، إلى أن حلَّت النكبة. وتمّ تشريد نصف مواطني فلسطين بطريقة متوحشة إجرامية. هذا تطلَّبَ وخلق بالضرورة مساهمات أدبية وفنية مكتوبة ومرئية ومسموعة كانت بسيطة الأدوات والتمويل وشحيحةَ الخبرة. إذ إنها، كما السينما عالمياً وعربياً، خاضها في البداية فنانون مسرحيون وممثلون ولم يكن هناك ما يُسمى بالفنان السينمائي، لذا فإن المنجزات كانت بسيطة بِدورها، فَعَصبُ السينما هو الاختصاص، والتمويل، قبل القضية التي يطرحها أي فيلم.
عَقِبَ النكبة، بدأ الفنانون العرب والفلسطينيون بإنجاز أفلام وثائقية وتسجيلية تؤرخ للمأساة، غالباً ما تكون ميادين تصويرها في مواقع مشاهد التهجير وخيام اللاجئين، عشرات اللقطات الوثائقية صُنعت على عَجل وغالباً بشكل فردي ومن دون خبرة كافية، وهي لا تُعدُّ أفلاماً بالمقاييس الفنية الأكاديمية، ولم يُحفظ منها إلى اليوم سوى النَّذْر اليسير، ذهبت معظمها مع ريح الزمن بسبب الشتات والحروب وصخب دموية الواقع المأسوي.
لم يحدث في التاريخ الإنساني كلّه أنْ كان هناك مادة سينمائية حيّة وحقيقية كما كانت وما زالت النكبة ومفاعيلها، تشتمل في جنباتها على الظلم والتواطؤ والجريمة والملاحقة والمذابح


مع إنشاء منظمة التحرير، طالب عديدٌ من الفنانين، عبر شرح أهمية الصورة المرئية، بالدعم لتقديم القضية للعالم، إلا أن عقلية ومعمعان المدّ الثوري والكفاح المسلح طغت على الجهود تلك بهدف تأمين البندقية، ثم سرعان ما أُدركتْ أهميةُ ذلك، حيث قام الاحتلال ومؤسسات عالمية مموّلة بسخاء بضخّ الملايين لإنجاز أفلام تَحْرِف معنى وحقيقة النكبة وتصوّر اللاجئين كمتخلّفين، قدموا غالباً من دول الجوار وسكنوا أخيراً «صحراءَ» فلسطين لسنوات قليلة ثم «رحلوا» بسبب الحرب لا المجازر وخطط ومشاريع التهجير. في ذلك ساهمتْ عشراتُ الشركات والدول عالمياً، ونظّمتْ شركاتُ هوليوود حملةً دعائية كبرى، مَوَّلها كبارُ مُستحوذي المال ومن بينهم آل روتشيلد مثلاً. لذا فإن من يستعرض أفلام تلك الفترة (1948-1975) يلحظ الهجوم الغربي الصهيوني والمباشر وغير الذكي على الشخصية العربية واستعراض همجيّتها وترويج «ديموقراطية إسرائيل». ساعدت على ذلك سذاجة السينما العربية والفلسطينية وفقرها التمويلي.
منظمة التحرير قامت بإنشاء مؤسسات سينمائية، وصار هناك ما يُعرف بسينما الثورة. وعلى الصعيد العربي لم يبخل السينمائيون بتقديم أفلام حول قضية النكبة واللاجئين والفدائيين، وظل الأمر كذلك حتى الستينيات وحلول النكبة الثانية عام 1967، فكان للبنان وسوريا، إلى جانب مصر وأقطار أخرى، دَورٌ كبير في المساهمة، عبر مخرجين وأفلام تحوم موضوعاتها حول القضية وشجاعة الثوار الفدائيين والعمليات العسكرية وأوضاع اللاجئين المجحفة في المخيمات.
في محصلتها العمومية، لم تكن السينما الفلسطينية، ولاعتبارات عدة، بمستوى وحجم مأساة النكبة إلا بمقدارها العاطفي الحِسِّي، لكن منذ الثمانينات حدثت قفزة ما، بدأت تبدو هناك ملامح سينما فلسطينية كاملة الشروط الفنية، واليوم تسطع السينما الفلسطينية عبر عشرات الأسماء والأفلام الجيدة، والتي تنافس عالمياً. فقد حصدت عشرات الجوائز في المهرجانات الدولية أمام أفلام تُموَّل بملايين الدولارات، اختلفت مساحات وأدوات ومفردات تناولها للقضية عامةً، واتّسعت رؤيتها وخبرات صانعيها، لكنها تفتقر إلى الاستراتيجية العملانية، وإلى التنظيم المؤسساتي الحقيقي، وكذلك إلى الميزانيات المناسبة. لهذا لا نشهد استعادةً غنيةً للمأساة واللجوء والتهجير عبر أفلام روائية جيدة إلا ما ندر، بل نلحظ هوامش موضوعات تستبعد فعل وغنى معاني النكبة وتتخذ قصصها من نتائجها المواربة غالباً. للتمويل تأثيره أيضاً، فلا تمويل بلا شروط، نحن لا نرى أفلاماً روائية تتحدث عن المذابح مثلاً، لكننا اليومَ نَلحظُ العشرات من أسماء الشبان والشابات الذين يصنعون أفلامهم بإمكانات وتمويلات فردية أو بسيطة داخل فلسطين وخارجها، وهم يحاولون تصويب واستكمال ما حاوله وبدأه آباؤهم.
لم يحدث في التاريخ الإنساني كله أنْ كان هناك مادة سينمائية حية وحقيقية كما كانت وما زالت النكبة ومفاعيلها، تشتمل في جنباتها على الظلم والتواطؤ والجريمة والملاحقة والمذابح... وتصلُح حتى لصناعة أفلام الأكشن والرعب كما الحبّ والعاطفة.