ممّا لا شك فيه أن حرب الوجود في فلسطين بين أصحاب الحقّ والأرض والمستعمرين الصهاينة، لا يمكن تقييمها بمشهد واحد، فالمقاومة عبر سنوات الاحتلال أخذت أشكالاً مختلفة فرضها الواقع الدولي والإقليمي، وأبدع في مواجهتها هذا الشعب العنيد المتشبّث بحقّه. وبناءً على هذا المنطق، فإنّ تسليط الضوء على أيّ قضيّة ونتائجها، يجب أن يكون بمعطيات الحالة المعطاة منفردة، ومنها قضيّة الاعتقال والإضراب عن الطعام، وآخرها معركة الأمعاء الخاويّة التي خاضها الشيخ الجليل خضر عدنان، فارتقى فيها شهيداً.لا يمكن تقييم نتائج نضال الحركة الأسيرة بتحديد من المنتصر فيها، من غير تحديد أهداف العقل الصهيوني من الاعتقال، فلا لبس بأن الهدف ليس العقاب القانوني جرّاء جرم ما، فالأمر يجب أن يصوّب، بأنّ الكيان بالأساس وجوده غير طبيعي. وكتعبير عن عدم طبيعيّته في هذا الحيّز الجغرافي من العالم، يمارس كل أنواع الاضطهاد التي عرفتها البشرية في تاريخها، لذا نشهد منه يومياً اعتقال الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ضمن سياسات ممنهجة، ظاهرها محاربة ما يسمّيه «الإرهاب»، وواقعها حماية إدراكه وتيقّنه بعدم طبيعيّته في فلسطين.

المعتقلات مكاناً لكيّ الوعي
شكّل الأسرى داخل المعتقلات وعبر عقود أحد العوامل الأساسية في معركة الوعي مقابل كيّ الوعي، فالمعتقلات، وعلى قساوة الفكرة، أشبه بجامعات وطنيّة وفكريّة وثوريّة، ونموذج للوحدة الوطنيّة. ومع تطوّر الحركة الأسيرة، وأثرها في الحركة الوطنية الفلسطينية، بتنا نشهد ابتسامة الشباب أثناء اعتقالهم، لتغدو تلك الابتسامات ليس مجرد لقطة أخذتها الكاميرا، بل قيمة معنوية ووطنية، رسّخها الأسرى بنضالهم، ونضالهم المستمر، ودورهم الوطني الجامع.
مع الوقت، ثبتت قناعة لدى الجمهور الفلسطيني والمتضامن مع فلسطين في العالم، أن نضال الأسرى ليس من أجل الحقوق اليومية لهم في السجون، ولا المكتسبات التي تمّ نيلها بالإضرابات الكبرى عن الطعام، وإنما من أجل مدى أوسع لا يتوقف حتى عند حدود فلسطين المحتلة، فهو معركة حرية جماعية، ومعركة صبر ومصابرة يتعلّم منها الشعب الفلسطيني أن اليأس ليس من سماته على الإطلاق.
كان يدرك أن قرار عدم الاستسلام، حتى لو كانت النتيجة استشهاده، لن يحرّر فلسطين. لكنّه مثل غيره من المقاومين، يدرك أنّ عدم استسلامه وحتى شهادته هي طلقة جديدة


إذاً، في قضيّة الأسرى لا نستطيع قراءة النصر من المشهد الجاف، معتقل مستلبة حريته، بل من خلال الهدف من هذا الظلم الموجّه، لنصل إلى نتيجة، بأنّ العدو الصهيوني يهزم، إذ لا يحقق غايته. فالأسرى يشكلون مجتمعاً قائماً بحد ذاته، حضورهم ملهم داخل المعتقلات، وخارجها، ويحققون نموذجاً أخلاقياً لمعنى التضحية والشجاعة، فقد مكّن الأسرى الشعب الفلسطيني من فكرة أن الاعتقال ليس سلباً للحرية، بل تقييد جسد، والشهادة ليست الموت، بل حياة أخرى.

الأمعاء الخاوية
عززت هذه المعركة فكرة أن قضية الأسرى عامة، وليست فردية، وأن الأسير المضرب يخوض معركة الأسرى ككل، من سبقوه، ومن سيلحقون به، وأن الانتصار الذي يحقّقه الأسير يشكل نصراً للجميع. وفي حال الشهادة، فإنّها تشكل دافعاً لمزيد من الإصرار على مواصلة النضال. فالشيخ الشهيد خضر عدنان استطاع خلال العقد الأخير انتزاع حريته بعدما خاض أكثر من معركة، فانتصر فيها بنيله الحرية، ليصبح النموذج الملهم الذي يقتدى، وباستشهاده أيضاً حقق نصراً آخر يريده، سبقه إليه من سبقه. مع كل إضراب خاضه الشيخ الشهيد، كان يعلن رفضه التام والمطلق للاحتلال، وعدم قبوله بأي شكل من الأشكال بإرادة هذا المحتل للأرض، فإضرابات الشهيد خضر عدنان هي قول لا كبيرة لـ«إسرائيل»، وهدفه الدائم كان الحرية، لا لشخصه، بل لوطنه ولشعبه.
ويبدو بديهياً أن الشهيد خضر كان يدرك أن قرار عدم الاستسلام، حتى لو كانت النتيجة استشهاده، لن يحرر فلسطين، لكنه مثل غيره من المقاومين، يدرك أن عدم استسلامه وحتى شهادته هي طلقة جديدة في الاحتلال. ولا سيما أن تداعيات استشهاده سنراها في المعارك القادمة، وأسلوب عدم استسلامه شهدناه مراراً، وبالتالي لن يكون بأيّ شكل من الأشكال عبرة لمقاومين غيره بأن يستسلموا للاحتلال خشية من الموت، فالشيخ، وكل مقاوم، يدرك أن في موته حياة أخرى تكتب لفلسطين ولشعبها.
إنّ الأسرى والشهداء الأسرى قضيَّة كل فلسطيني، ومن نافل القول إن هذا النموذج في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة الأخرى في الجولان، أكد أن صاحب الحق سلطان حتى لو كان مقيَّداً بجدران اسمنتيَّة، فكلمة أسير أصبحت مصطلحاً يوازي معنى الانتصار الحقيقي.