هو العاشق للوطن، متعدد المواهب، من الراوي إلى المؤدي والموسيقي، صاحب الصوت الشجي، تتنقل معه ما بين الكلمة والصوت والموسيقى، لترى جمال وروعة فلسطين من خلال الكثير من الأعمال التي أنجزها وأدّاها الفنان محمد هباش. هو المنفي قسراً عن بلاده؛ لاجئ إلى سوريا، مولود قبل نكستنا بسنة، ولأنه سليل عائلة فلسطينية حافظت على التراث والوعد للعودة إلى الديار، كانت بدايته مرتبطة بالنضال الوطني الفلسطيني. منذ طفولته المبكرة، انخرط محمد في هذه المهمة، وما يزال على الوعد، متشاركاً مع شقيقه خالد عازف القانون والمجوز، إضافة إلى آمنة وفاطمة وخليل، يؤرّخ لكل مراحل النضال الفلسطيني، وكل محطاته، يغني للشهداء وللمدن، ويحدث الذاكرة الفلسطينية من باب الفن الفلسطيني الملتزم. لهذا، فإن سبر أغوار تجربته مهمة شاقة وصعبة، ويلزمها الكثير من التأمل وفهم المعنى، قبل دخول محطاتها ورسم معالمها. فنحن هنا أمام فنان فلسطيني استخدم الصوت والكلمة والموسيقى في تجربةلا تزال ماثلة حتى اللحظة هذه، والوجهة واحدة ومعروفة، لذا ليس مستغرباً عليه أن يغني لكل الفلسطينيين، ويبرز شهادة الأبطال منهم، إلى أي لون سياسي انتموا، وإن كلّفه ذلك دفع ضريبة الموقف. فهو ابن فلسطيننا البار، تسكنه روح الفنان الحقيقي الذي يعمل على واجب رسالي، التزم به وتعهّد أن يمشي عليه، متجاوزاً كل الأطر الحزبية. نراه يرسم شوارع طبريا، بلدته التي هجر منها، ونلقاه في حارة الياسمينة في نابلس، ونخرج معه من سجن عكا، ونصلي في القدس، كما يصف أحوال غزة: «كل وحوش الغابة تحدينا». عندما سكن قضية شعبه اتضحت رؤياه وبانت تربته.
نحن لسنا خبراء في المقامات الموسيقية التي ألّفها ولحنها، ولكنه يجذب ذائقتنا الموسيقية ويتعبها، يفرحها ويشجيها، بعدما زاوج بين التراث والحداثة، ولا ضير طالما مجرى النشيد واحد، حتى لو كانت وروده أقل على حد وصف شاعرنا محمود درويش.
من طفولتنا المبكرة اخترق صوت محمد آذاننا ولم يغادر، وهو يروي سيرة الأبطال في بيروت وهم يحفرون بالفخر سيرة الأجداد


من طفولتنا المبكرة اخترق صوت محمد آذاننا ولم يغادر، وهو يروي سيرة الأبطال في بيروت وهم يحفرون بالفخر سيرة الأجداد والراية الواحدة، لنراه مع انتفاضتنا الكبرى، يطل علينا من فرقة «الجذور»، يحاكي صغيرها وكبيرها، ليعود مع الانتفاضة الثانية يزيّن ملحمتها، ويعطيها بسخاء عصارة فنه، فهو ابن فلسطيننا البارّ الذي لا يتعب ولا يكلّ. المتابعون لتجربته يدركون أنها تعاني الخذلان؛ فهذه التجربة بحاجة إلى المأسسة والدعم والتبنّي من قبل الجهات الرسمية الفلسطينية، فـ«العاشقين»، الفرقة التي نشطت بأسماء أخرى، لا بد لها أن تكون فرقتنا القومية الأساس، ومَن غيرها وثّق كل عذاباتنا ونضالاتنا بقالب فني دخل كل بيت فلسطيني؟ يكفي أن يسمع أطفالي أغنية جديدة لمحمد وفرقته حتى يتسمّروا في أماكنهم منصتين مردّدين غناءه، وهم الذين ولدوا بعيداً من الديار ويتكلمون بلغة أخرى غير لغة بلادهم، أليس هذا هو «النجاح»، وإن لم يكن كذلك فما هو إذاً؟

«كتيبة العاشقين»
منذ النكبة، تميّزت الأغنية الفلسطينية وروافدها بالكلمة واللحن بخصوصية حافظت فيها على مزاياها حتى هذا الوقت. فضياع الوطن هو أكبر المآسي، وسيرة الشعب المعذب في الوطن والشتات هي سيرة تتلى في الشعر والموسيقى ومختلف أشكال الأدب. وعندما نقول الفن الفلسطيني، يعني بالضرورة أن ترفق «الملتزم» في ثنايا الجملة، فالالتزام في هذه الحالة هو الانضباط. فزمن الترحال والمنفى والغربة، وحتى العيش تحت حراب الاحتلال، كلها دوافع للالتزام حتى يعود الحقّ لأصحابه ويستقيم زمنهم.
غنّى محمد سيرة القسام، ثورة الأجداد الأولى، وأرّخ لها، واستفاض في الثورة الفلسطينية المعاصرة، ليصل إلى قلب الوطن في جولات شعبه الثلاث في الانتفاضات المتتالية. وحين يخفت الكفاح، كان محمد يعمّق تجربته لتلاقي أخواتها العربيات، مضيفاً إليها نكهة فلسطينية، ولمَ لا ونحن أبناء الساحل السوري تتداخل فينا المشتركات؟ لكن غيابه عن فلسطين النضال سرعان ما يحضر متألقاً مرة أخرى، فمحمد وفرقة «العاشقين» أصبحا متلازمين، هو عمادها ومدادها قولاً ولحناً، حتى لو طار به المنفى إلى البلاد البعيدة، تبقى فلسطين الحاضرة الدائمة، فلسطين «من المية إلى المية»، التي يمشي ويروي حكايتها وحكايتنا معها، فهي التي لا تقبل القسمة، إمّا أن تعاش كلّها وإمّا النضال من أجلها.
منذ أن وطأت أقدام الغزاة البلاد، لم يحمل الشعب الفلسطيني البندقية فقط، لقد حمل معها كل وسائل النضال واستخدمها في سبيل إثبات الحق، والشعب الحي هو من يفعل ذلك، لهذا يصحّ القول في محمد وإخوته وزملائه في العمل وكل من واكبوه أنهم «كتيبة العاشقين» - شقيقة «كتيبة العرين» و«كتيبة جنين».