في أواخر خمسينيات القرن الماضي، كنت أعيش في الجنوب الأميركي المعزول، في غالفستون، وتحديداً في تكساس. آنذاك، كان يعدّ العزل العرقي أمراً طبيعياً. كانت هناك نوافير منفصلة للشرب ومدارس وأقسام مساكن منفصلة بحسب العرق. ولم أبدأ بفهم الدوافع وراء «قوانين جيم كرو» التي كانت تهدف إلى الحفاظ على تفوّق البيض من خلال الإبقاء على أصحاب البشرة السوداء في وضع دوني، إلّا بعدما بدأت في الاستماع إلى قادة الحقوق المدنية، على غرار مارتن لوثر كينغ.من خلال الانخراط في حركة الحقوق المدنية في المدرسة الثانوية، بدأت ألحظ تعقيدات العنصرية في الولايات المتّحدة. بالنسبة إلى الفلسطينيين، يتمثّل الفصل الكامل بين السكان اليهود والفلسطينيين بجدار الفصل العنصري، الذي يتمّ تبريره بالرغبة في منع «الإرهابيين» الفلسطينيين من دخول الدولة التي يسيطر عليها الصهاينة.
ومع ذلك، فإن الفصل العنصري الإسرائيلي يؤثر على كل مجال من مجالات الحياة اليومية للفلسطينيين على امتداد أرضهم: من نقاط التفتيش إلى الطرق المنفصلة، إلى لوحات الترخيص المنفصلة وغيرها. في هذه الحالة، لا تكون حركة الفلسطينيين مقيّدة فحسب، بل تكون حياتهم مهدّدة في حال القيام بحركة خاطئة. وعلى غرار الشباب السود في هذا البلد، الذين يخبرهم آباؤهم عن كيفية التصرف في حال اعترضتهم الشرطة، يتعلم الفلسطينيون، منذ سن مبكرة، كيفية التنقل في هذا النظام.
قبل عدة سنوات، في أحد الصفوف الذي يدرّس التاريخ الأميركي، قالت لي إحدى طالباتي إنّ عليها أن ترى، بشكل مباشر، مثل هذا النوع من الانتهاكات حتى تشعر بأي تعاطف إزاءها. ومثلها، أخبرتني ابنتي أنها رأت في مدينة ألباكركي، في ولاية نيو مكسيكو، لوحات إعلانية على طول الطريق السريع تركّز على فقر الأطفال، ولكن نظراً إلى أنها لم تره بعينها، فكان من الصعب عليها تصديق أنّه موجود.
بمجرد أن يصبح الاضطهاد أمراً طبيعياً بالنسبة إلى مُضطهدٍ ما، تصبح هناك طرق عديدة لتبريره. فعلى سبيل المثال، يُزعم أن الجدار العازل في فلسطين المحتلة بني لمجرد منع «الإرهابيين الفلسطينيين» من دخول «أراضي الـ 48 المحتلة». بيد أنّه إذا أقدم الفلسطينيون في الخليل، في المقابل، على وضع أقفاص سلكية حول نوافذهم لمنع الصهاينة القاطنين في الأعلى من الاعتداء عليهم باستخدام شتى أنواع المواد الرهيبة، فلا بد أن سبب ذلك أنهم ارتكبوا خطأً ما. هذا يشبه إلى حد كبير تبرئة الشرطة في أميركا عندما يطلقون النار على شخص أسود أعزل؛ فبالطبع، يستحق هذا الشخص ذلك لأنّه ارتكب خطأ ما.
ما لم تُفكّك ثقافة الفصل العنصري من خلال إنهاء استعمار الدولة الصهيونية، ستظلّ آلة القمع على حالها


ومن ضمن الاستراتيجيات المختلفة لمواجهة هذا الوضع، يؤدي «الأسبوع العالمي لمكافحة الفصل العنصري» دوراً مهماً. قبل سنوات عدّة، أقام «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» في جامعة نيو مكسيكو نقاط تفتيش في مواقع مختلفة حول الحرم الجامعي. بهذه الطريقة، لمس الطلاب بشكل مباشر الإحباط، والخطر في بعض الأحيان، اللذين يواجههما الفلسطينيون لمجرد تسيير أعمالهم اليومية.
تشمل الخيارات الأخرى العرض العام للأفلام، مثل فيلم فرح النابلسي بعنوان «الهدية»، الذي يروي قصة يوسف الذي يذهب مع ابنته لشراء ثلاجة لزوجته. وما بين الجنود والطرقات المنفصلة ونقاط التفتيش، يتحوّل ما كان ينبغي أن يكون يوماً سعيداً إلى ما هو أشبه بالكابوس.
إنّ إنهاء الفصل العنصري الصهيوني في فلسطين المحتلة خطوة مهمة نحو التحرير، لكنها لا تشكّل نهاية الكفاح. فما لم تفكّك ثقافة الفصل العنصري من خلال إنهاء استعمار الدولة الصهيونية، ستظل آلة القمع على حالها.
تتعمّق لميس ديك، المحامية وعضو «منظمة العودة في نيويورك: تحالف من أجل حق فلسطين في العودة»، في شرح هذه النقطة، معتبرةً أنّه من خلال التركيز على المقارنة مع الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، «يحدّ إطار الفصل العنصري من مفهوم التحرير». وتضيف: «كما أنه يمجّد نوع الحركة اللاعنفية، المرتبطة بالمقاومة الموجّهة نحو الحقوق المدنية، والتي يرتكز جزء منها على المُضطهد، وفي ذلك تشويه للمقاومة المسلحة، علماً أنّ هذه الأخيرة هي الشكل الوحيد من أشكال الدفاع عن النفس المتبقية للفلسطينيين، والوحيدة التي حررت أراضي فلسطينية محتلة، أو ردعت العنف الإسرائيلي».
لقد أدركت إثيل مينور، وهي ثورية مدافعة عن الوحدة الأفريقية، ولدت في شيكاغو، إلينوي، هذه المسألة جيداً. وفي مقابلة مع كاثرين أوزبورن، برّرت مينور سبب سفرها إلى كولومبيا (أميركا الجنوبية) في الستينيات، بدلاً من المشاركة في حركة الحقوق المدنية الصاعدة هنا في الولايات المتّحدة، بالقول: «كنت أرى في ذلك كما لو أنّ أشخاصاً في موقع دوني يتوسّلون لأشخاص وضعوا في مركز متفوّق، ليسمحوا لهم بالدخول؛ سيّدي هل تسمح لي، أرجوك، بالدخول وتناول همبرغر في متجرك أو الشرب من نافورة المياه الخاصة بك؟ وجدت ذلك مهيناً للغاية».
في كولومبيا، التقت مينور بفلسطينيين فرّوا من وطنهم خلال نكبة عام 1948. وتركت العلاقات التي كوّنتها أثراً على عملها في المحاماة بعد عودتها إلى الولايات المتحدة. من خلال العمل مع «لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية» (SNCC) عقب عودتها، أصبحت مينور سكرتيرة كوامي توري، وقد أثّرت من خلال هذا المنصب على توري من خلال جعله يربط نضال حرية السود في الولايات المتحدة بالنضالات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك فلسطين.
في 21 أيلول 2022، انتقلت مينور إلى عالم آخر، لكن إرثها العابر للأوطان لا يزال حاضراً. خلال أسبوع مناهضة الفصل العنصري 2023، سيكون من الجيد الاعتراف بالعلاقة بين النضال الفلسطيني من أجل التحرير والحركات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم.
وكما يلحظ عمر زعزع، كان غسان كنفاني، الناشط/ المثقف الفلسطيني، أمميّاً يؤمن بأن «القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فقط، إنّما قضية كل ثوري... بصفتها قضية الجماهير المستغَلّة والمضطَهدة في عصرنا». من هذه الكلمات، يستخلص زعزع أن كتابات كنفاني «تكشف عن فهم ثابت لفلسطين، على أنّها أحد العوامل المحفّزة لمشروع عالمي أوسع للتحرير الدولي. فخوض النضال الجماعي للتحرير، يعني "الكشف عن المظاهر المحلية للشعيرات الدموية للإمبراطورية العالمية"». من إثيل مينور إلى كنفاني، وغيرهما، تترك أعمال هذه الشخصيات إرثاً مهماً لأسبوع مناهضة الفصل العنصري لعام 2023.
* ناشطة وكاتبة أميركية مقيمة في الولايات المتحدة، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة نيو مكسيكو

ترجمة ريم هاني