«أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيع [الأعداء] اقتلاعه» - [يحيى عيّاش]
يستثمر العدوّ جزءاً كبيراً من وقته ومقدّراته المادية في دراسة أي حالةٍ من حالات المقاومة التي تنشأ بوجه مشروعه الاستعماري. وفي الحالة العربية، لا يضرّنا الاعتراف بأنّ مراكز أبحاث العدو لا تزال متفوّقة علينا في نوعية وكمّ المحاولات لفهم وتأطير تاريخ المقاومة العربية بوجه المشروع الصهيوني، وهو ما نلتمسه من خلال أدوات حرب الوعي المتجدّدة والمتطوّرة التي يعمل بها العدوّ وفق متطلبات المرحلة.
وتأتي محاولات العدوّ لتأطير الفعل العربي المقاوم، بهدف التمكّن من توقّع مساره، بالتالي تسهيل القضاء عليه أو تحجيمه. لكنّ كلّ هذه الجهود ما زالت تصطدم بمفاجآتٍ تعطّل خوارزميات العدو، وتُعيد ترتيب الأوراق بما يبغضه العقل الاستعماريّ. هذه «الخضّة» التي تشغل العقل الأمني والسياسي للعدو، هي نتاجٌ لظاهرة متجدّدة، لكنّها ليست جديدة على الساحة العربية الفلسطينية، أبطالها فئةٌ هامشيّةٌ بنظر العالم، مركزيّةٌ في وعينا، عنوانها «أولاد حارتنا».
أولاد حارتنا، وصفٌ ينطبق على ظاهرة الجيوب المُقاتِلة في الضفة الغربية اليوم. فالمجموعات الفدائية التي يبايعها الجمهور يوماً تلو الآخر، والتي تقدّم الشهداء قمراً خلف الآخر، هي عبارة عن ثلّة من الشباب المقاتِل الذي استطاع أن يكسر قيود العمل ضمن بيئة شعبية مُهمّشة، تخضع لأقسى أشكال العنف السياسي والحصار الأمني (سواء من المستعمرين مباشرةً أو من عملائهم العرب أو من الطرفين معاً). هذا النوع من العمل الفدائي ليس جديداً، إذ سبق له الظهور في مخيمات اللجوء الفلسطيني في الأردن وسوريا وتحديداً في لبنان، حيث كانت التضحيات الكبيرة في بداية ستينيات القرن الماضي طريقاً لكفّ يد المكتب الثاني اللبناني عن المخيمات، والتمهيد لتمركز قوات الثورة الفلسطينية فيها. ويقوم هذا الشكل من العمل الفدائي على الروابط الاجتماعية التي تنتجها البيئة المهمّشة، سواء كانت مخيّماً للجوء أم حارة شعبية، حيث ينمّي الأفراد شعوراً مشتركاً بالانتماء إلى هذه البيئة، وما تحمله من قضية وهوية وقيم. وضمن هذه البيئة، يخرج «أولاد الحارة» ليتصدّوا للمهمّة الأصعب في زمانهم، وهي الإبقاء على جذوة المقاومة والدفع باتجاه المشاركة في الحرب العربية للوجود.
وكما كان الخروج في الستينيات سبيلاً لكسر مفاعيل هزيمة 1967، وفكّ القيود المفروضة على الشعب الفلسطيني في الشتات، كذلك فإنّ خروج أولاد حارتنا في جنين ونابلس وأريحا وغيرها من جيوب المقاومة، يأتي اليوم في سياق تكامليّ مع تثبيت معادلات الردع بالقوّة، وسقوط أوهام أيّ شكلٍ من أشكال الوجود الفلسطيني في ظلّ إسرائيل. إذ لا نستطيع اليوم أن نقرأ تصاعد العمل المقاوم في الضفة بعيداً من «سيف القدس» وما تلاها من خلط لأوراق اللعبة، ومحاولات تشبيك الساحات عبر «وحدة الساحات». فهذه الأحداث جاءت لتثبّت معادلة القوة بالقوة، لا بل الذهاب نحو تصعيد رقعة المواجهة الجغرافية على أرض فلسطين، بما يضمن عدم الاستفراد بأي ساحة من الساحات. وكما هو متعارفٌ عليه، فإنّ ساحة الضفة الغربية تشكّل الخطر الميداني الأكبر على الجبهة الداخلية للعدو، بسبب وجود كتلة شعبية كبيرة على تماس مباشر مع المستوطنات والجيش الصهيوني وعمق الأراضي المحتلة. لذلك، أفرد العدوّ لتحييد الضفة جهوداً كبيرة، كان لعصابة «أوسلو» نصيب كبير منها سواء لناحية التخدير وكيّ الوعي أو القمع المباشر. وهنا، لا بدّ من التذكير بالدور الذي لعبته الرموز الثورية كالشهيد باسل الأعرج وضياء تلاحمة ونزار بنات ورفاقهم في تحريك المياه الراكدة، وتقديم النموذج المحطّم لقيود العجز والتيئيس ضمن ساحة مُحاصَرة بأغلال أمنية وثقافية وسياسية متكاملة.
التضحية وتقديم النموذج في هذه المرحلة، هما السكين الذي تشقّ به الطريق، لأجيالٍ يكتسب وعيها أبطال تقتدي بهم


وبناءً على ما يظهر، تقوم ظاهرة «أولاد الحارة» في شكلها ومضمونها على سلسلةٍ من التناقضات المتكاملة، التي تُربك حسابات العدو في التعامل معها. من جهة، فإنّ تشكّل هذه المجموعات قد يبدو عفويّاً من ناحية الدافع الاجتماعي والوطني البديهي الذي يدفع الشبّاب إلى البحث عن وسائل المقاومة والاشتباك ضمن محيطهم. ومن اللافت أنّ هذا البنيان الاجتماعي المحلّي شكّل حلّاً (مؤقتاً) لهيمنة العدو الأمنية-التكنولوجية التي تعيق التواصل التنظيمي عن بُعد. ومن جهة أخرى، يسمح الترابط الاجتماعي (العفوي) بين أفراد المجموعة بتكوين حلقات من التأثر والتأثير، تتحوّل بدورها إلى منابع متجدّدة لفدائيين جدد عبر الأجيال، مما يجعل مهمّة القضاء على أثر الفعل أشدّ صعوبةً على العدو وأدواته. ولعلّ التعلّق الشعبي بنماذج كالشهيد جميل العموري وإبراهيم النابلسي وعبود صبح ورفاقهم، خير دليلٍ على نجاح الرهان الذي اتخذه هؤلاء الأبطال في خوضهم هذه المعركة مع العدو.
وهنا يبرز التناقض الإيجابي الثاني، لناحية دور الفرد والمجموعة. فالتضحية وتقديم النموذج في هذه المرحلة، هما السكين الذي تشقّ به الطريق، لأجيالٍ يكتسب وعيها أبطال تقتدي بهم وبسيرهم وأخلاقهم، وصولاً إلى الاقتداء بأفعالهم والبناء عليها. لكنّ التضحية وتقدّم الصفوف لا تعني بأي شكلٍ من الأشكال استرخاص الأرواح، فالفداء مقرونٌ بالجدوى، والحرص على استخلاص أكبر قدر من الجدوى بأقلّ الخسائر ضرورة في المرحلة المقبلة. وبناءً على ذلك، وفي ظلّ تغييب النشاط الحزبي المنظّم، يتعاظم دور الفرد ومسؤوليته في تقديم النموذج الواعي القادر على دفع محيطه إلى دروب المواجهة مع العدو على الصعد كافة. وهنا لا بدّ للفرد أن يرتقي من كيانٍ منعزل يتشكّل بمصالحه الأنانية وغاياته القاصرة، إلى شخصية الفرد المجتمعي، الذي يسخّر طاقاته ووعيه في خدمة مجتمعه وقضية تحرّره. وتتجلى هذه الشخصية اليوم في فعل الشهداء، في وصاياهم وعلى ألسنة أمهاتهم وآبائهم ورفاقهم.
ختاماً، يعود أولاد حارتنا لفرض إرادتهم على أجندات المستعمِر، لكنّ تضحياتهم العظيمة لا بدّ وأن تحصّن بالوعي والثبات على أسس حربنا لقطع الطريق على أي حرفٍ أو احتواءٍ لهذه الظاهرة. أما نحن، فإلى جانب الدعم والإسناد والنصح، واجبنا اليوم أن نلتزم ونعمّم القيم التي يجسّدها هؤلاء الأبطال على الصعيد الوطني، كالتفاني والإيثار والتضحية، والأهم من ذلك، على الصعيد الاجتماعي-الأخلاقي، كحُسن السيرة ودماثة الخلق وبرّ الوالدين وصدق العلاقات. فالإنسان العربي المحصّن بهويته وقيمه وقوّته، هو في نهاية المطاف ثمرة ذلك الزرع الذي لن يُقتَلع.