استفتاءُ التاريخ من زاوية ما، هو امتحانٌ للعقل التقييمي المُنشغل تارةً بارتياب الخوض في المصطلح والمقولة، وأخرى بالجدوى وأدواتِها المُثلى، فإنْ كان ذلك يخُصُّ المستقبل الإنساني تُمسي الإجابةُ المنقوصة ضرباً من انتهاك البشرية لذاتها وخلاصة تجربتها التحررية، وهي انْعطافةٌ خطيرةٌ للإنسانية المنخورة ببطش التخلف ومُفرزات مخلفات العنصرية وسِعَة انتشار مفرداتها الإعلامية والدبلوماسية، إنه اختلاطُ التباس عجيب بين المُقتضيات التحررية وشكلِ الرغبة الاستعمارية في طريقة وحدود البحث عن الحرية، والمشفوعة بمفردات القيم الإنسانية النبيلة كغطاءٍ ناجح لِوَقْعِ ومجريات تغطية الجريمة.
(«جنين.. تحدي الاحتلال» - مأمون الشايب)

ما الذي سوف يحدث في حال نجاح خلط الثورة بالإرهاب مثلاً؟ أو مزج صيغة الإرهاب على كل مقاومة ضد الظلم والاحتلال والدكتاتورية وانتهاكات جسد وروح الإنسانية؟
الاستمرارية في الثورة، ومن ضمنها حِنكةُ إشغالِ الطاغية ومقاومته المستمرة بالأدوات الممكنة، بغضّ النظر عن لَحظتَي قوته أو هزالته، فعاليته على الأرض أو نكوصها، هو ما يعطيها مشروعيتها، بحيث تجلب التراكميةُ الكمِّيةُ تلقائياً مشروعيةَ الفعل المُتصدي، الذي يُطوّر بالتالي أدواته باستمرار، ما ينعكس على التجربة - الخبرة وتطوّرها المستدام، كما يكبح جزئياً ثم كلياً افتراسَ القوة لبراءة السكونية والضعف، وهو بذلك أيضاً ينسج تدريجياً تكريس فكر الثورة والمقاومة بحكم التوالي زمنياً، ويوسع من رحابة نتائجها المقبلة، ولا سيما في بلدٍ كفلسطين، التي يمكن بسهولة وجلاء ملاحظة أن فترات الهدوء والاستكانة فيها تشهد دائماً جرائم أكثر وقاحة وأشد عنفاً وازدراءً للقوانين والأعراف الإنسانية، حتى إنه يمكن من حيث التوثيق التأريخي ملاحظة أنه كلما تقدمت العمليات الفدائية ونبضتْ الروحُ الثورية بتجلياتها العنفية، وحتى الاحتجاجات التعبيرية السلمية، ارتبك العدو أكثر وتراجع عن وحشيته ولو قليلاً، أو على أقل تقدير تراه قد تريّث مُرغماً!
لحظةَ الفعل النضالي بمختلف أدواته، يختفي المستوطنون في الملاجئ، داخل المستوطنات التي تُعدّ حصوناً عسكرية، سكانها مدججون بكل أسلحة الفتك ومقوّمات الصمود، ويصعب على المقاتلين اختراقها أثناء تلك الفترات، لكنها تكون على الأقل قد لجمت جنون التوسع بالجريمة وحُمَّى الممارسات النازية الإرهابية، فالانكفاء خلف الأسوار يحتم اتخاذ مواقع دفاعية، وهكذا يكفّ المعتدي عن نسبة ما من نسب اعتداءاته الاعتيادية.
الفكرة لا تنحصر في لحظة مواجهة آنية ما، بل ترسم جوهرَ إيقاع عملية الصراع مع المغتصب المتغطرس إلى حد كبير، إلى جانب أن الاستمرارية في شتى أنواع الكفاح - العنفي والسلمي - تعدّ أهم عامل في شحذ الخبرة وتطوير الذات والأدوات، ما يمكن تسميته مع التراكمية اليومية بنضوج التجربة، كما في ممارسة الطب والفن والأدب أو أية مهنة أخرى.
لا يلاحظ العديدون بأن الصهيونية منذ نشأتها حافظت على الديمومة الفعلية، يمكن توضيحها بوصفها «حالة عدم التوقف»، وهذا أحد أهم أسباب تحقيقها لنجاحات على أصعُد عدة، لقد بدأت بالفكرة، ثم استجلاب المجموعات البشرية، ثم تدريبها وتسليحها، ثم خلق المنظمات الإرهابية مختلفة العناوين، وضمّها في جيش نظامي بعد إنشاء الكيان الفرانكشتايني وهكذا، فكانت كل مرحلة مقدمة للأخرى، والأخرى مكملةً لما سبق.
يمكن من حيث التوثيق التأريخي ملاحظة أنه كلّما تقدّمت العمليات الفدائية ونبضتْ الروحُ الثورية بتجلّياتها العنفية، وحتى الاحتجاجات التعبيرية السلمية، ارتبك العدوّ أكثر وتراجع


ما سبق من تحقيقه صهيونياً لم يحدث عند الفلسطينيين، فكانت كل ثورة أو مقاومة تبدأ من ذاتها وتنتهي بذاتها، وهو ما سبَّبَ الانقطاعات الزمنية المتوالية، تنتهي الثورة، ثم بعدها تكون فترة سكون وارتباك تطول أو تقصر، لتُولد أخرى بلا قراءة تُذكر لسبب فشل السابقة أو شحّ نتائجها وهكذا...
ما جرى بالتالي عبر قرنٍ خلا أن المقاومة والثورة خسرتْ التواصل والتراكمية، فلا هي استفادت من سابقتها ولا أسست بعمق للاحقتها.
يبدو اليوم أن هناك من التقط الفكرة المُنتِجة للفعل الثوري، وتحديداً في الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948 ربما كتعويض عن سُكونية الخارج وتكلّس غزة بحسب رغبة الفئة المهيمنة وعلاقاتها الإقليمية واستحقاقاتها الدولية. لذا، وبما أن مخابرات الاحتلال تعمل بشكل دائم على تفكيك شبكات المقاومة الفدائية داخل الضفة ومدن الداخل، وقد نجحت في ذلك مراراً، فإن المسألة بسيطة تتلخّص في ألّا يكون هناك مجموعات تقليدية أو تنتمي إلى فصائل علنية، هنا برزت الفكرة المبدعة: فليكن التركيز على الجهد والعمل الفردي، ويمكن ملاحظة نجاحات ذلك النمط الذي ينبت في بقاع لا يمكن التكهن بها ويمارس نضالاته من غير مكان وفي غير مكان، وعلى يد أفراد لا أحد يعلم عنهم شيئاً، كل ذلك لم يكن متوقعاً.
في هذه الحال، يبدو الرد على إرهاب الاحتلال أكثر ديناميكة وأرحبَ من حيث حرية اختيار الزمان والمكان، وهو لا يحتاج إلى قرار سياسي واجتماعات حزبية فصائلية، فبعد جريمة كجريمة اقتحام مخيم جنين التي تم حشد أكثر من كتيبتين من قبل جيش الاحتلال لتنفيذها، والتباهي بعدها في ذلك لرفع رصيد حكومة التشكيلة اليمينية الإرهابية العنصرية برئاسة نتنياهو، تأصلتْ فكرة الرد مسبقاً فجاء الرد خلال ساعات وكانت المعادلة المثيرة: جيش بكامل تسليحه يقتل عشرة، فدائي واحد يردُّ بأكثر!
بكل بساطة، بإمكانك ارتداء زيّ مُضلِّل للشاباك والعملاء، ودخول مستوطنة ما وفتح النار فجأة على تجمعات الإرهابيين، هذا ما فعله خيري علقم وحده داخل العاصمة الفلسطينية رداً على الجريمة الطازجة للاحتلال في جنين.
تبدأ الثورة - المقاومة الدائمة من الفكر، من الثقافة، لا من قعقعة السلاح، فالمسألة من حيث تكوينها بحاجة إلى فلسفة رؤيوية ذات علاقة بالفكر الإنساني وطموحاته وأوجاعه، ومن بؤرة فهم قيمة الكرامة والتوق إلى الحرية، ومع اكتمال أسس ومكونات الرؤية تنتج النظرية، ثم المقولة، وتنضج الفكرة ليندلع بعدها أتون الثورة. لذا فإن حالة المقاومة البطولية المجردة من الفكرة - الثورة تبدو بلا جدوى إلا من حيث التجربة العملياتية لا أكثر، يجب أن يكون الهدف انتزاع حرية أو تحرير بلاد بالكامل، وهو الأمر الذي توليه الثورة الحقيقية أولى اهتماماتها، مبتعدة عن مصطلحات متخلفة قبلية مثل «ثأر.. انتقام..» ذلك أنها تنطلق من الفكرة - النظرية، وهذا اللبس بين الحالتين - الثورة والمقاومة - وقعت فيه خيرة المناضلين، وحتى الفدائيون الذين رسموا ملامح بطولة وفداء راقية، ذلك أنهم لم يكونوا ضمن دائرة إدراك فحوى الثورة الحقيقية، هذه الدائرة التي لا تعني أبداً فصيلاً أو حزباً بعينه، وإنما ما يجمع أقواسها هو الفكرة والهدف. بمعنى أكثر وضوحاً، فإن على الفلسطينيين اليوم رسم استراتيجيتهم بناءً على إدراك الثورة لا مجرد فعل المقاومة، فالثورة فعل يسبقه ما هو فكري كما أسلفنا، أما المقاومة فهي رد فعل على هجوم ما، وبالتالي يمكن استخلاص ما يأتي: الثورة تتضمن المقاومة، إلا أن المقاومة لا تتضمن الثورة بالضرورة، الثورة تضع برنامجاً واستراتيجية ونهجاً، المقاومة جهد تصدٍّ آني، الثورة مبادرةٌ - فعلٌ والمقاومة ردة فعل.
تلك الحقيقة القديمة التي لا تزال سائدة حتى اليوم، وقد عبّر عنها علي بن أبي طالب ذات قرنٍ ما بقوله: «ما غُزيَ قومٌ في عقر دارهم إلّا ذُلُّوا».