غادروا عالم المخيّم في سوريا مكرهين لا مخيّرين، والغصة تملأ قلوبهم. ساروا إلى عالم مجهول في طرق جلّها كانت وعرة وقاسية، وواجهوا الموت في البحر هروباً من واقع لا يتحمّل اللاجئون الفلسطينيون مسؤوليته، بل هم بالفعل ضحاياه.لقد عاشت المخيمات الفلسطينية في سوريا منذ عام 2011 ظروفاً تعدّ الأصعب، منذ نكبة عام 1948؛ تدمير للمنازل وقتل وخطف وتهديد وتشريد ونهب على أيدي فصائل مسلحة حاولت أن تجبر الفلسطينيين على المشاركة الفعلية في تدمير سوريا مثلما حصل في عدد من الدول العربية تحت مسمّى «الربيع العربي».
عدد كبير من الفلسطينيين الذين عانوا من كل ذلك، لم يملكوا أيّ خيار آخر غير الهجرة، لأنهم فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم وحتى أعمالهم، ومنهم من حصلوا على درجات عليا في الدراسة ونالوا شهادات بمختلف الاختصاصات العلمية والأدبية والمهنية.

ضريبة البقاء والخروج
«م. ع.» مسنٌّ (84 عاماً) رأيناه جالساً أمام منزله الذي تهدّم جزء كبير منه في مخيم خان الشيح في ريف دمشق، اقتربنا منه وسألناه عن وضع أسرته بعدما عادت الحياة الطبيعية إلى المخيم، رفض في البداية التحدث، لكنه بعد برهة من الصمت وبقائنا معه أمام منزله، وإصرارنا على سؤاله مجدداً، انطلق في الحديث ببطء شديد، كانت كلماته غير واضحة تماماً، غير أن تعابير وجهه وحركات جسمه كانت كافية لفهم ما قال: «استشهد ابني إبراهيم وهو يدافع عن هالمخيم وهالبلد قبل عدة سنين، وهاجر أخوه سعيد، وبقيت أنا وحرمتي هين، وبتجي بنتي نمرة المتزوجة كل يوم علينا، بتطبخلنا وبتنظف البيت وبترجع لبيتها».
عاد العم «م. ع.» إلى الصمت ورفع رأسه بتثاقل، نظر إلينا وإذا بدموعه تنهمر على وجنتيه، محاولاً متابعة روايته عن معاناتهم وما ترك استشهاد أحد أولاده وهجرة الآخر من غصة في صدره: «ما عاد حيلتنا شي، بس كرامتنا فوق كل شي، وفلسطين كانت بلدنا وراح تبقى بلدنا مهما حصل ما راح ننساها. ابني استشهد والتاني راح على الغربة وأنا وحرمتي هان راح نبقى ونموت وكلياتنا فدا بلادنا».
سامي ر.، مدرّس عمره 33 عاماً، كان في مخيم حندرات في محافظة حلب شمال سوريا، وتهجّر إلى مدينة حمص وسط البلاد، بعد تدمير بيته بالكامل من قبل مسلحين، يعيش الآن مع ابنته في بيت للإيجار، يقول: «لم يعد أمامي أيّ خيار سوى إرسال زوجتي وطفلي إلى هولندا، لأن الوضع هنا لا يطاق أبداً، بعدما فقدنا كل شيء والمعيشة أصبحت صعبة وراتبي لا يكفي إلا لأيام قليلة في الشهر، ولا تقدم مساعدات كافية لنا، ولا أستطيع بناء منزل جديد، لذلك ننتظر لمّ الشمل قريباً».
اكتشفت أنّي فاشل بالنسيان وأنّ المخيّم وفلسطين سيبقيان في وجداني وضميري، وسأوصي أولادي بذلك أيضاً، وكفى


بقاء الطفل حياً... أمل جديد
خولة ع.، ربة منزل عمرها 42 عاماً، تعيش في مخيم السيدة زينب، ماتت ابنتها وزوجها بعدما انقلب «البلم» في البحر أثناء التوجه إلى اليونان، تاركة طفلها الذي نجا بأعجوبة عن طريق بعض الأشخاص ممن كانوا على متن قارب آخر، روت لـ«الأخبار» القصة كاملة: «تزوجت بنتي من قريب إلنا قبل عدة سنوات، أنجبا طفلاً وكانوا يسكنون في غرفة داخل بيتنا الصغير، ولأنّو ظروفنا صعبة كتير، والبيت صغير، وما في مصاري معنا تكفي لنعيش منيح، ويكون لبنتي وأسرتها بيت يعيشوا فيو، اتفقت هي وزوجها على السفر إلى أوروبا، وبعدما أمّنوا المصاري بالدَّين من بعض الأقارب والمعارف، راحوا ع لبنان، ومن هناك ع تركيا ومنها ع اليونان. لكن ما حصل في البحر إنو انقلب البلم، ومات عدد من الناس بينهم بنتي وزوجها، وبقي طفلهما حيّ، لأنو كان في ناس تانيين في زورق ثاني، كان قريب من البلم، أنقذوا بعض ركاب البلم، ومنهم حفيدي. موت بنتي وزوجها كان صعباً كتير علينا وكسر ظهرنا، لكن هذا قدرنا وقدرهم، والحمد لله بكل الأحوال».

خوف من تفكيك المخيمات
ثمّة تخوّف كبير في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني، ممّا يتم التخطيط له لجهة تفكيك التجمعات والمخيمات الفلسطينية في الشتات، بهدف تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني للاجئين الفلسطينيين، وتمزيق وحدة فلسطينيّي الشتات، وتذويب هويتهم الوطنية عبر إجبارهم على المغادرة والبحث عن الأمن والأمان في بلاد العالم، وصولاً إلى تمويت الانتماء للوطن الفلسطيني، وإنهاء التمسك بمواقف الإجماع الوطني التي تقول بحق العودة إلى فلسطين، غير أن ما يبدد هذا التخوف هو إصرار الفلسطينيين على حبهم لبلدهم، حتى لو هاجروا إلى أصقاع العالم. هذا ما أكده الشاب الثلاثيني بشير ز.، من مخيم اليرموك، يعمل نجار موبيليا، ويعيش الآن في ألمانيا: «أعيش في ألمانيا منذ تسع سنوات، وحصلت على الجنسية، وتزوجت فتاة ألمانية، وأنجبت منها ثلاثة أولاد، أوضاعنا تحسّنت كتير بعدما فتحت ورشة نجارة موبيليا، ولقيت الدعم الكافي من السلطات المعنية. صحيح إنّي غادرت مخيم اليرموك مجبراً مثل كل أهله، لكن ما راح إنسى أهمية المخيم وطفولتي فيه، وحتى بداية شبابي، وهو راح يبقى بذاكرتي وضميري، مثل ما هي فلسطين ستبقى بلدي، حتى وإن أخذت جنسية تانية، وراح نبقى نكافح ونعلّم أولادنا على حبّ وطنهم المزدوج فلسطين وألمانيا، وممكن بالمستقبل يكون إلنا دور كبير في الدفاع عن حقوقنا وقضايانا».

سأوصي أولادي... وكفى
هذه القناعة تنسحب أيضاً على المهندس الثلاثيني كمال خ.، الذي يعيش الآن في السويد، بعدما كان من سكان مخيم درعا جنوب سوريا: «أنا حزين على كل الذين تركتهم بالمخيم، حيث تعلّمت معنى الحياة بزواريبه، ودرست في مدارس درعا وجامعاتها، لكني أجبرت على الخروج عام 2012 تحت وطأة جسامة الأحداث وفقدان السكن والمورد الاقتصادي، وكابدت مثل غيري البؤس والفقر، ولم تكن الرحلة سهلة أبداً، لأنّي من أول ما طلعت عالمركب كان لازم إتعلم أنسى. ومن أول ما وصلت إلى السويد، وطوال كل هذه السنين، مع تحسن وضعي الاجتماعي والاقتصادي والمهني كثيراً، اكتشفت أني فاشل بالنسيان وأن المخيم وفلسطين سيبقيان في وجداني وضميري، وسأوصي أولادي بذلك أيضاً، وكفى».