لقد عايشت سابقاً أدب السجون عبر قراءة كتاب «ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي» للأسير مروان البرغوثي الصادر عام 2011 (الدار العربية للعلوم ناشرون)؛ في ظرف استثنائي اعتقل البرغوثي عام 2002 في إطار عملية «السور الواقي» الإسرائيلية، وفي خضم انتفاضة الأقصى، فيصف تلك المرحلة: «في وقت تزدحم فيه السجون وزنازين التحقيق بالمئات من المناضلين... مما دفع العشرات من ضباط التحقيق المتقاعدين للعودة إلى العمل إثر استدعائهم، وكان الطاقم الرئيس الذي أجرى التحقيق معي مكوناً من ضباط أمضوا حياتهم في تعذيب آلاف المناضلين، وأنهم عملوا في المخابرات بعد خدمة تزيد على عشرين عاماً، أي أنهم يتمتعون بخبرة كبيرة جداً في مجال التعذيب بألوانه وأشكاله كافة».أترك المخيلة للقارئ عبر ما كتبه الإعلامي اللبناني، والأسير السابق زاهي وهبي، الذي وصف تجربة البرغوثي بالسجون الإسرائيلية عبر مقدمته للكتاب، فيقول: «يعري مروان البرغوثي في كتابه الوحشية الإسرائيلية، كاشفاً الطبيعة النازية لمعتقلات الاحتلال الإسرائيلي وأساليب التعذيب الهمجي... ولئن كان قائد سياسي وعضو برلمان منتخب من قبل شعبه قد تعرض لكل هذه الوحشية، فما بالنا ببقية الأسرى والمعتقلين ممن لم يحظوا بفرصة اهتمام إعلامي أو سياسي».

في معرض بيروت الدولي للكتاب
لفتني عنوان كتاب رأيته الشهر الماضي في هذا المعرض الذي انعقد أخيراً، تحت عنوان «خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ» للأسير حسن عبد الرحمن سلامة، الصادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، فعادت بي الذاكرة إلى كتاب البرغوثي الذي سطَّر تجربته الصعبة، وصموده العجيب، عام 2011، إلا أننا أمام كتاب لتجربة جديدة، فترددت في العودة إلى قراءة هذه التجارب، والتي تركت في نفسي حسرة وألماً جراء ما يتعرض له الأسرى من معاناة تفوق الوصف، فقد هالتني أشكال التعذيب النفسي والجسدي الذي تعرض له البرغوثي، فلماذا أعود إلى هذه المشاهدات من جديد.
التقطت الكتاب، لأقرأ المقدمة، وإذ بي أمام رئيس حركة «حماس» في الخارج، ورئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل، مقدّماً للكتاب، واصفاً، بشيء من الاختصار، ما عاناه الأسير سلامة من عزل طوال ثلاثة عشر عاماً، لكن ما لفتني هو أن هذا الأسير المحكوم بالمؤبدات، قد دخلت عالمه «غفران»، خطيبته، التي قررت أن تربط مصيرها بأسير ربما لا يخرج من السجن، فقلت في نفسي، لا بد من قراءة قصة هذه الخطوبة، ودخلت في «عالم برزخ» الأسير سلامة.

من هو الأسير حسن سلامة
قائد عسكري، ورفيق درب محمد الضيف القائد العام لكتائب عز الدين القسام، ويحيى عياش الملقب بـ «المهندس»، نفذ عمليات ما سمي بـ «الثأر المقدس» رداً على اغتيال عياش عام 1996، مما جعله عرضة للملاحقة الإسرائيلية، ولقد اعتقل بعد إصابته إصابة خطيرة، وما زال حتى اليوم معتقلاً في سجون الاحتلال، حكم بـ 48 مؤبداً و35 عاماً، قضى منها نحو خمسة آلاف يوم في زنازين العزل في السجون الإسرائيلية، التي سماها بنفسه «عالم البرزخ»، وهي بالنسبة له، حالة وسط ما بين عالم الأحياء وعالم الأموات.

في العزل الانفرادي
دخل الأسير العزل الانفرادي عام 1997، واستمرت به الحال كذلك لثلاث سنوات حتى منتصف عام 2000، ليتخلص من العزل بعد إضراب عن الطعام شاركت فيه الحركة الأسيرة من السجون كافة، ليعيش التجربة من جديد بعد ذلك في عزل آخر في سجون متعددة استمرت لثلاثة عشر عاماً بمجموعها. أمّا ما حثه على كتابة تجربته، فهي خطيبته التي يقول في حقها «والفضل في ذلك يعود لخطيبتي الحبيبة التي دخلت حياتي وعالمي، ووافقت أن تقرن حياتها بحياتي فأنقذتني، وكان بيني وبين عالم الأموات خطوة واحدة... وكان لها الفضل باستفزازي الإيجابي الذي جعلني أقتنع برأيها ومنطقها بلزوم الكتابة عن هذا العالم»، وسنتعرف إلى قصتهما من خلال هذه الكلمات.
يحدّد الكاتب الأسير عنوانه: سجن أيالون- العزل الانفرادي، وسجن أيالون في مدينة الرملة، لكن أين هو في هذا السجن، هو لا يعرف. يعيش الأسير المعزول في سجن صغير جداً، داخل هذه السجون نفسها في زاوية من زواياه، جرى انتقاؤها من قبل خبراء متخصصين في تعذيب البشر.
من الأشياء التي وصفها بـ «الجميلة» قصة الفأر الذي كان يسرح ويمرح في الزنزانة، فقد أصبح مؤنسه، فضلاً عن زائريه من الصراصير والبرغش والذباب


يعرفنا الكاتب الأسير عن أنواع العزل؛ منها نوع يتحكم به مدير السجن، ويخضع القرار فيه بإيقاع عقوبة العزل، وذلك لأسباب منها حيازة شيء ممنوع، أو دفاع الأسير عن نفسه أمام اعتداء شرطي، فيوضع بما يسمى «السنوك» وهي زنازين لا يوجد بها حمام أو أي شيء، مخصصة للعقاب؛ والثاني يكون بدافع أمني، فمن دون سابق إنذار يتم إخراج الأسير من السجن أمام بقية الأسرى، ويوضع في أقسام العزل.
وتخضع هذه الأقسام لرقابة شديدة، ومصير الأسير متروك لمزاجية مدير السجن، والحرمان هو عنوان تعذيب الأسير داخل العزل، يقول: «هي دائرة متكاملة من الحرمان لا تنتهي، ندور بداخلها، وكل يوم تكبر وتتسع، وتزداد قساوة، ونزداد حرماناً، ونزداد شوقاً».
يصف الأسير زنزانته المعزولة بأنها «وسخة الجدران، وخالية من أي شيء إلا خزانة حديد على الأرض، وفرشة إسفنجية قديمة بدون غطاء، كانت حارة جداً، ولا يوجد مجال لدخول الهواء إلا سوى من جهة الحمام».
كان من جملة مآسيه أن الأسير سلامة الذي تنقل في زنازين العزل، محروم من الزيارة، حتى أن شقيقه أكرم المسجون معه داخل سجن الرملة، لم يسمح له برؤيته منذ عشر سنوات.

حكايا الزنزانة
سأترك معاناة الأسير النفسية والجسدية، لمخيلة القارئ، لكن أود أن أذكر ما أورده سلامة من قصص متنوعة، عايشها داخل أسره، منها ما هو متوقع أو غير متوقع، وكيف يتعامل الأسير معها.
من الجوانب التي اضطر سلامة للتعامل معها السجناء اليهود، الذين كانوا يُحضرون إلى سجون العزل، فيعلمون بوجوده من غير أن يروه، فتبدأ حفلة الشتائم والسباب، والتي رد عليها سلامة في بداية الأمر، لكنه اضطر في النهاية أن يتجمّل بالصبر، ولا يخضع لاستفزازهم، وهو دور مارسه حتى مع السجانين، الذين كانوا يتعرضون له بالضرب والإيذاء، والتفتيش العاري، وبالكلاب.
كان من سعيد حظه تعرّفه إلى سجين جنائي (عصام)، من بين جدران الأسر، الذي ساعده كثيراً للاتصال بالعالم الخارجي وقدّم له «خدمات داخل السجن»، منها نصف جسد حمامة التقطها أحد الأسرى من شباكه، لتتحول إلى وليمة بعد حصوله على أدوات المطبخ بعد إضراب عن الطعام، وهو المحروم من اللحوم، فلا يأكل بعدها لساعات حتى لا يضيع طعم اللحم من لسانه.
ومن الأشياء التي وصفها بـ«الجميلة» قصة الفأر الذي كان يسرح ويمرح في الزنزانة، فقد أصبح مؤنسه، فضلاً عن زائريه من الصراصير والبرغش والذباب، الذين حاربهم في البداية بضراوة، فلم يجد حلولاً معهم بالرغم من كل محاولاته للتخلص منهم، فاستسلم للصبر.
وكان من عادة السجان الإسرائيلي، أن يدخل مع الأسير المعزول، أسيراً، فاستقبل سلامة العديد من الأسرى في زنزانته المعزولة، واضطر للعيش مكرهاً مع بعضهم، وفرحاً مع آخرين، ولكل أسير حكاية، فمنهم الموسوس بالنظافة حتى الجنون، فيستحم ويشغل الحمام باستمرار، إلى المدخن الشره، وصولاً إلى سجين داعشي اشتبك معه داخل السجن على الرغم من محاولاته المتكررة لاستيعابه، لكن عبثاً.
كان من المؤسف فعلاً، أن يتجدد له الأمل بالخروج من السجن، فقد انتابته فرحة كبيرة، بل أحلام جميلة بعد سماع خطف المقاومة للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، إلا أن ذلك لم يحصل، وتجاوز المسألة بصبر كبير.
أمّا طعم الحب، ويا للمفاجأة، وهو الذي ترك خطيبته عند بداية اعتقاله، حتى لا يظلمها كما يقول، فيعود إليه الحب من جديد من شباك السجون، في رسالة حملتها المحامية والأسيرة السابقة شيرين العيساوي، موجهة له من الأسيرة أحلام التميمي المخطوبة لابن عمها نزار التميمي المحكوم بالمؤبدات، كانت مكلّفة بمتابعة ملف أسرى «حماس» من خلال المحامين، تطلب في الرسالة أن يختار شريكة حياته، فكانت «غفران زامل»، التي كانت شغوفة بمتابعة شؤون الأسرى، ومنهم سلامة، وأصرت على الارتباط به في رسالة أرسلتها له خصيصاً رغم تردده وتمنعه في البداية، حتى لا يظلمها، أمّا كيف كانت الخطبة، فعبر الوسطاء، رأى صورتها فقط، ووافق عليها، وجرت الخطبة على التلفاز، نعم في برنامج للأسرى، تحدثت فيه والدته، وخطيبته.
إن هذه القصص لا تحدث إلا لأمثال سلامة.