ربما هذا الموضوع لن يكون جديداً على ساحة النقاش، فلقد نوقش على مستوى الأحزاب العربية والإسلامية، وكُتبت فيه المقالات والأبحاث، لكن أظن أن للحزبية الفلسطينية خصوصية مختلفة، لأسباب متعددة منها نشوء الأحزاب بعد الاستعمار البريطاني لفلسطين. إذ يعود نشوء أوّل حزب تقليدي انتسب إليه الفلسطينيون عام 1919، وهو «حزب العمال الاشتراكي في فلسطين»، وتعود ظروف تشكّله بعد انشقاقه عن حزب «بوعالي تسيون» والذي يعني «عمّال صهيون»، حيث دعا هذا الحزب إلى الشيوعية، ونادى بقطع العلاقات مع الحركة الصهيونية والانضمام إلى الكومنترن.كذلك كان للمؤتمر العربي الفلسطيني الذي انعقدت دوراته منذ عام 1919 إلى 1928 شكل من أشكال الحزبية، كونها انبثقت عن طريق الانتخابات، وتشكلت من خلالها لجنة تنفيذية، من كبار العائلات والشخصيات الفلسطينية، والتي بدورها قادت العمل السياسي في فلسطين.
إذاً، هناك تاريخ يعود لأكثر من مئة عام من التجربة الحزبية الفلسطينية، والتي بدورها أيضاً تكرست في القرن الماضي عبر حزبي الدفاع والاستقلال، بقيادة آل النشاشيبي والحسيني، عام 1935، ونشوء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965، والفصائل الفلسطينية كحركة فتح والجبهتان الشعبية والديموقراطية، وغيرها، في حقبة الستينيات والسبعينيات، وصولاً إلى صعود المد الإسلامي الفلسطيني بعد انتفاضة الحجارة عام 1987 عبر حركتي الجهاد الإسلامي وحماس.
وإذا نظرنا إلى الظروف والأسباب الدافعة لنشوء تلك الأحزاب، نجد أنها كعنوان أساسي نشأت قبل «وجود الدولة»، والمجتمع المستقر، فلقد نشأت في ظل استعمار بريطاني واستيطاني يهودي، أي في خضم معركة الفلسطينيين للتحرير، وفي ظل وضع عربي خرج لتوه من الاستعمار الغربي، لتنشأ أنظمة موالية للاستعمار، ساهمت بدورها كعنصر مساعد في نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، في التخاذل عن دعمه، ولتخوض معركة عبر جيوشها، معروفة النتائج، وتلك قصة أخرى.

حدود التجربة الديموقراطية الفلسطينية والمسؤولية الأميركية والإسرائيلية
أعتقد أن منظمة التحرير الفلسطينية التي نشأت بقرار عربي، كممثل للشعب الفلسطيني، والتي يصر البعض على اعتبارها الممثل الوحيد، غابت فيها الديموقراطية، بل غلبت عليها الديكتاتورية، متسببة بكارثة للشعب الفلسطيني عبر خوضها مباحثات «السلام» السرية في أوسلو، لتخرج علينا باتفاق أدى إلى نكبة جديدة للشعب الفلسطيني. فمنظمة التحرير، ومن خلفها «فتح» والأحزاب الموالية، وقّعت عن الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج هذا الاتفاق المشؤوم من غير استفتاء، وهو الذي كان قبل ذلك يخوض انتفاضة عام 1987 ضد الاحتلال، أذهلت العالم عبر استخدام الأطفال والشباب «الحجارة» واللحم الحي للمواجهة، لتستغل المنظمة هذه الانتفاضة وتوظفها سياسياً من غير نتائج، ومن قال إن الشعب الفلسطيني في قرار كهذا يمكن أن يقبل باتفاق أوسلو لو حصل استفتاء.
وتكرر النموذج السيئ عبر السلطة الفلسطينية، التي بدورها ألحقت أوسلو بالعديد من الاتفاقيات مع الاحتلال، وهي كثيرة من غير أن تعود للشعب الفلسطيني، ولتمارس دوراً ديكتاتورياً لا يقل ضراوة عن الأنظمة القمعية الموجودة في الدول العربية.
لقد أثبتت الأحداث لاحقاً، أن نتائج الانتخابات وممارسة الديموقراطية، لم تغير في مسار الشعب الفلسطيني نحو الأفضل


ولاحقاً، وفي آخر انتخابات تشريعية خاضها الفلسطينيون عام 2006، تدخلت إدارة بوش، ولاحقاً أوباما، برضى السلطة الفلسطينية، لتقمع التجربة الديموقراطية في فلسطين، عبر محاربة حكومة إسماعيل هنية، والتي أدت بدورها إلى الاقتتال فالانقسام، لتندلع حرب عام 2008 مع الاحتلال، وبدعم عربي، وصولاً إلى الحصار؛ ومنذ ذلك الوقت، إلى الآن، ومنذ ذاك التاريخ، توقفت الانتخابات رغم المحاولات المشكوك بأمرها لخوضها، وعرقلة الاحتلال الإسرائيلي لها في الضفة عبر اعتقال مرشحي «حماس»، ومنع التصويت في القدس، بالتالي حرم الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في الانتخاب والترشح، وممارسة الديموقراطية، لتستمر سلطة الأمر الواقع في الضفة وغزة.
وبالرغم من نشوء الكثير من الأطر الديموقراطية النخبوية والشعبية الفلسطينية، والتي حاولت بدورها طرح مبادرات على مستوى إنهاء الانقسام، وخوض الانتخابات، وإصلاح منظمة التحرير، إلا أنها جوبهت بالتجاهل، أو الاعتقال والقمع في الضفة وغزة، واختصر التمثيل على حركتي «حماس» و«فتح»، وكأنهما أصبحتا قدراً لا فكاك منه للشعب الفلسطيني.

فرادة ومسؤولية «الجهاد الإسلامي» تجاه الديموقراطية
لقد تبنَّت حركة الجهاد الإسلامي خياراً مبدئياً تجاه الانتخابات والمشاركة في الحكومة عام 2006-2007، معتبرة أنه لا يعلو صوت فوق صوت المعركة، معركة التحرير، وإن كانت لا تعارض إجراء الانتخابات، إلا أنها ترى أن أي انتخابات تجري تحت سقف أوسلو هي اعتراف بشرعية الاحتلال، بالتالي فإن أولويات الشعب الفلسطيني هي ليست خيار السلطة والانتخابات، بل السير بمعركة المقاومة وصولاً إلى التحرير.
ولقد أثبتت الأحداث لاحقاً، أن نتائج الانتخابات وممارسة الديموقراطية، لم تغير في مسار الشعب الفلسطيني نحو الأفضل، بل أدّت إلى أسوأ ما يمكن أن يصيب شعباً في معركة التحرر من المستعمر، ألا وهو الانقسام، إلا أن هذه الانتخابات، بما لا يدع مجالاً للشك، كشفت توجهات الشعب الفلسطيني تجاه رفض سياسة المنظمة وحركة فتح، وفسادها المستشري، لتصب في مصلحة المقاومة (حماس)، كذلك كشفت النوايا الحقيقية للولايات المتحدة والعرب تجاه الديموقراطية الفلسطينية، التي أرداوا لها أن تصب في مسار واحد، ألا وهو مسار أوسلو، وبالرغم من التموضع الوسطي الذي وضعت فيه حركة «الجهاد» نفسها بين «حماس» و«فتح»، تجاه موضوعة الانقسام والانتخابات، فإنها لم تستطع هي وبقية الفصائل أن تنهي الانقسام، ربما لأن موضوع إنهاء الانقسام ليس قراراً محلياً، بل له امتداداته الإقليمية والدولية للطرفين.
وبغض النظر إن كانت الانتخابات التشريعية متوقفة أم لا، فإن أسس الديموقراطية، كالترشح والانتخاب، لا يجب أن تغيب عن مسار الشعب الفلسطيني، وإن كانت المعركة محتدمة مع الاحتلال، فـ«الجهاد» تخوض الانتخابات الطلابية في الجامعات في غزة، وتحرص عليها، وما ينطبق على الجامعات كذلك ينطبق منطقياً على الشعب الفلسطيني، فالحركة وإن كان يحق لها كأي حزب أن تختار الانكفاء أو خوض الانتخابات، إلا أننا كشعب فلسطيني في الداخل والخارج نحتاج إلى معرفة التوجه والمناخ والمسار العام للشعب الفلسطيني منذ عام 2006 إلى الآن. فبعد حروب متتالية على القطاع منذ عام 2008 وصولاً إلى معركة «وحدة الساحات»، وما يجري في الضفة، من خوض الحركة معارك شرسة عبر كتائبها في الضفة إلى جانب أجنحة المقاومة، وما يعانيه اللاجئون في الخارج، هي معنية كغيرها بمعرفة نتائج مسارها، عبر صوت يسمع في صناديق الاقتراع.
ربما يعتبر البعض هذا الكلام نظرياً، أو ليس في محله، فمن يتحدّث الآن عن الانتخابات في فلسطين، وخصوصاً أن الدول من حولنا بعد فشل تجربة الربيع العربي، وأفول الديموقراطية في الكثير منها، عبر عودة الحرس القديم إلى السلطة، بانتخابات شكلية أو من دونها، تعد تجربة فاشلة، إلا أن الديموقراطية هي مبدأ سماع صوت الشعوب، والشعب الفلسطيني يستحق كغيره أن يسمع.
أمّا الديموقراطية داخل الأحزاب الفلسطينية فتلك قصة أخرى.