«اللبناسطيني»، أو «اللبناسطينية»، هو كيان معنوي، نشأ وتطوّر كهجين فرضه منطق التكيّف بين المسموح وغير المسموح، أو الممكن جعله مسموحاً بين القوانين اللبنانية وبين شروط التطور التاريخية الخاصة لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذي يطاول كل جوانب حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بمعنى أنه نتاج التفاعل بين لبنان الرسمي الذي يحرم الفلسطيني من الحقوق المدنية والاجتماعية، وقدرة الفلسطيني على إيجاد طرقه على التأقلم مع الحفاظ على اشتباكه الرئيسي من أجل حق العودة.ومن روح هذا التكييف وتلك القدرة على التأقلم، ولدت قاعدة احترام الأمر الواقع أو الاعتراف به لأهميته المرحلية، وربما لعدم الرغبة في نفيه أو تكسيره لاعتبارات لبنانية، وهي تطاول كل الأطر والكيانات الفلسطينية السياسية، العسكرية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، لا سيما وأن الدستور اللبناني يعطّل الحق، والسياسات الرسمية تمنع وتتمنع، وذلك لخصوصيات تختص بها استثنائية الصيغة اللبنانية.
وعلى قاعدة أن كل شيء يسير من البسيط إلى المعقد، نشأت الجمعيات العاملة في الوسط الفلسطيني في لبنان ضمن مسار زمني يمتد لعقود من الزمن، من أواسط سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن، من جمعيات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، إلى عشرات الجمعيات الخدمية/الخيرية، والحقوقية والتنموية.
هذا التنوع ومثله هذا الانتشار، لم يمر بسلاسة تفرضها الحاجة وتحتمها ضرورات ملء الفراغ، بل تعرض إلى شيطنة متواصلة، فمضبطة الاتهام جاهزة من الفساد إلى المحسوبية والمنفعة الشخصية، وصولاً إلى الشيطنة ضمن الحيزين الوطني والديني، وتمتد من التخوين إلى التكفير.
إن غياب الاعتراف بالوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين في لبنان (الحرمان من الحقوق المدنية والاجتماعية)، والأزمة الدائمة للعجز المالي لـ«الأونروا»، وغياب المرجعية الفلسطينية وبالتالي سياساتها المجتمعية، في ظل حضور الجمعيات العاملة في الوسط الفلسطيني، لا سيما في أثناء الأزمات والأحداث الكبرى (تدمير المخيمات كتل الزعتر، والبارد، والاشتباكات الداخلية، وأزمة النزوح السوري،...)، الأمر الذي فرضها كمكون رئيسي، ودينامية فاعلة تساهم مساهمة مؤثرة في كل المجالات تقريباً.
وعلى هدي حركة وتطور الجمعيات العاملة في الوسط الفلسطيني شكلاً ومضموناً، كان المكون السياسي الفلسطيني يتعامل معها بازدواجية، بين الموقف الفعلي للعقل السياسي الفلسطيني، والقبول بها كأمر واقع أو باعتبارها تعالج قضايا ومشكلات لا قبل للسياسي بها.
يدخل تحت عنوان الازدواجية، هذا التناقض على مستوى الأدبيات، بين رفض المجتمع المدني والجمعيات ضمناً، وإنشاء جمعيات تدور في فلك التنظيم السياسي، أو تعمل وفقاً لأجندته الإعلامية، التعبوية والاجتماعية، وعليه تصير الجمعيات كافرة أو خائنة، تعمل وفق أجندة معادية إذا كانت خارج العباءة، وهي وطنية أو إسلامية إذا كانت تابعة أو خاضعة.
صحيح أنها ظاهرة عالمية وتعتبر نتاج المركز الحضاري (الغرب الإمبريالي)، لكن هناك بعداً محلياً حتمته أو فرضته حاجات الواقع


يمكن النظر لهذه المسألة من زاوية فهم استيعاب وقبول المجتمع المدني كظاهرة طبيعية نشأت في سياق تطور تاريخي بإشعاع عالمي، على اعتبار أن الجمعيات هي مكون واحد من مكونات المجتمع المدني، ويمكن حصر المسألة بالجمعيات، دورها، وظيفتها، أهميتها، وطبعاً بعيداً من التسييس والأدلجة، فصحيح أنها ظاهرة عالمية وتعتبر نتاج المركز الحضاري (الغرب الإمبريالي)، لكن هناك بعداً محلياً حتمته أو فرضته حاجات الواقع (استبداد السلطة، وانعدام الحريات وهيمنة السوق).
إنّ وضع العنوان العريض، المجتمع المدني، والخاص الجمعيات العاملة في الوسط الفلسطيني في لبنان، على مشرح الحوار ضمن ندوة وطنية فلسطينية جامعة يعتبر ضرورة لتحقيق فائدة، لكن ذلك يستوجب فلسطنة الحوار، والابتعاد عن التسييس والأدلجة، فكل شيء يجب أن يتموضع تحت عنوان أولوية المصلحة.
هذا لا يعني أن المجتمع المدني (الجمعيات) هو من جنس الملائكة، فكما أنهم ليسوا شياطين المرحلة، هم أيضاً ليسوا ملائكتها، فهناك أسئلة مشروعة حول التمويل وحقيقة المال المشروط.
ومن باب المساهمة في طرح العنوانين على طاولة النقاش والتفاعل، فإن التمويل يأتي من مصادر محددة منتشرة من أوروبا إلى أميركا وكندا إلى اليابان والبلدان العربية (الخليجية)، وتتفرع بين تمويل رسمي (يتجه غالباً نحو «الأونروا») وتمويل مصدره الجمعيات غير الحكومية في المناطق المذكورة سابقاً، التي هي بدورها إمّا مستقلة تنحاز للقضايا الإنسانية والحقوقية، وهي كثيرة في تلك البلدان، وإمّا خاضعة لتيار حزبي يساراً ويميناً، وفي أسوأ الأحوال واجهة لأجهزة استخباراتية.
ومثلما يقبل السياسي الفلسطيني ويؤمن أن هناك في تلك المناطق أصدقاء وحلفاء، أو متضامنين مع الحق الفلسطيني، فإن المستغرب ألا يقبل السياسي نفسه أن هناك جمعيات غير حكومية مستقلة ومنحازة للحق الفلسطيني، أو متضامنة من موقع إنساني، وبالتالي لا تعمل وفق أجندة سياسية، أيديولوجية، وهي تمثل فرصة للجمعيات الفلسطينية للحصول على تمويل.
أمّا عن قضية المال المشروط، وهي تستخدم بغير وعي أو علم، لا تعدو عن كونها شماعة يستخدمها البعض السياسي بغرض القصف على الجمعيات، وهي في حقيقتها تنبني ليس على الخوف على المجتمع الفلسطيني، بقدر ما هي خوف من تنامي دور المجتمع المدني وإمكانية تحوله إلى بديل، لا سيما وأنه يمتلك الوعي، والقدرة على الفعل، مع العلم أن القيادات الرئيسية في المجتمع المدني لا تطرح نفسها كقيادة سياسية، وأكثر من ذلك فإنها تحترم قاعدة تكامل الأدوار بين القوى الاجتماعية كافة.
على أن ما تقدّم لا ينفي المال المشروط، فهو موجود تاريخياً، أحزاب الحركة الوطنية الفلسطينية كانت تتلقى الدعم المالي، وبحكم غياب الشفافية، يمكن استخلاص حقيقة أن محاباة الأنظمة في الدول الداعمة، ودعمها في بعض الأحيان، حوّل الأموال من نطاق الدعم من دون مقابل إلى دعم بمقابل، بالتالي يدخل في نطاق شرطية المال، وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع المدني ومصادر التمويل، وهو الأمر الذي يمكن معالجته من خلال ترسيخ مبدأ الشفافية أولاً، ومن خلال الإيمان بوطنية المجتمع المدني وانتمائه الحاسم للقضية الوطنية.
على أن المسألة إن كانت حقاً للمجتمع الفلسطيني، فهي بالضرورة غير استثنائية، أي إنها لا تحصر النقاش بالجمعيات العاملة بالوسط الفلسطيني والملاحظات المطروحة حولها وعليها، فالتمويل وآليات الصرف والشفافية ليست حكراً على الجمعيات المستقلة أو شبه المستقلة، بل يجب أن تخضع لها كل أطر ومكونات مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ومثلما تمتلك الأطر السياسية الحق في طرح السؤال، فإن المجتمع المدني وفي القلب منه الجمعيات، يمتلك الحق في مساءلة المكون السياسي حول التمويل وسبل استخدامه وتوزيعه.
وعلى ما تقدّم يبنى أن منهج النقد الديموقراطي هو ظاهرة صحية طالما أنها التزمت سلّم القيم والأخلاق، بعيداً من استخدام أو استغلال عناوين جدالية للتكسير والإقصاء، وطالما أنها تلتزم أيضاً المصالح العليا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، فالمجتمع المدني الفلسطيني الذي يمتلك الوعي والخبرة والقدرة على الفعل والتفاعل يمكن اعتباره نقطة قوة وثروة وطنية لا هدفاً للتكفير و التخوين.

* كاتب وباحث
أكاديمي فلسطيني