بعدما عاد إلى عائلته، انشغل بالتحضير لسفره بعد ساعات من تونس إلى بغداد. كمية كبيرة من الأوراق و«الفاكسات» فوق المكتب، وهاتف يرن كثيراً. تساعده زوجته في تأمين بعض أرقام الهواتف لإجراء بعض الاتصالات، فقبل قليل ترأس اجتماع مجلس أمناء في تونس لتشكيل جمعية تضم شخصيات عربية وأجنبية لدعم فلسطينيّي الداخل المحتل. فجأة، تدخل ابنتهما حنان، تريد محادثة والدها: «شفتك في المنام رايح إلى القدس على حصان أبيض». ليجيبها: «نعم، أنا ذاهب إلى القدس على حصان أبيض». بعد قليل، يقتحم موشيه يعالون (بوغي) مع سَرِية هيئة الأركان العامة (سييرت متكال) ووحدة «قيساريا» التابعة لـ«الموساد»، فأفرغوا أكثر من 70 رصاصة في جسد الوالد. استشهد خليل الوزير. استشهد قائد «القطاع الغربي». استشهد الموجّه والأب الفعلي للانتفاضة في 16 نيسان 1988.قبل الاستشهاد بأسابيع، طرح أحد القادة الفلسطينيين فكرة تشكيل حكومة فلسطينية في المنفى. ليوقفه: «لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة. الوقت ليس مناسبًا ولنترك الانتفاضة تأخذ دورها». الدور هنا منوط بالقيادة الوطنية الموحدة «قاوم»، وما يترتب على ذلك ميدانياً. لذلك، أنشأ أبو جهاد تنظيم الشبيبة الطلابية في الجامعات، وأسّس لجان الأحياء واللجان الشعبية والاتحادات، بينها اتحادات المعلمين ولجان المرأة للعمل الاجتماعي، ودعم العديد من الجمعيات والجامعات في الداخل. فكانت انتفاضة الحجارة انتفاضة شعب بأكمله مع اتساع الجغرافيا الفلسطينية وصهر الطبقات الاجتماعية لهدف واحد. وبرز دور القيادة الجماعية، فـ«قاوم» لم يكن لها قائد واحد، إنما مجلس قيادي من فصائل منظمة التحرير. وهذا انسحب على القيادة الميدانية، وربما هذه النقطة الأقوى في مرحلة «انتفاضة الحجارة»، إضافة الى التخطيط المسبق لانطلاقها وتثبيتها واستمراريتها بالزخم والدعم. وهنا كان أبو جهاد «المايسترو» قبل اندلاع الانتفاضة وفي خلالها، ولذلك كان اغتياله هدفاً إجرائياً للهدف الأكبر وهو وقف مسيرة الانتفاضة.

بعد عام من اغتيال أبو جهاد، وصلت رسالة مشفرة إلى عبد الناصر البوز في حي الياسمينة. إنه أمر من قيادة «القطاع الغربي» تطلب منه مغادرة نابلس والضفة كلها والتوجه متخفّياً نحو الأردن فوراً، فحياته في خطر شديد. يُعرف البوز في نابلس بأنه «ناصر الملثمين». أما عند «الشاباك» وحركة «فتح» فهو قائد مجموعة «الفهد الأسود» في نابلس. نفذ ناصر الأمر، لكنه لم يصل إلى أي مكان. فُقد أثره. بعد الغياب، اعتبرته عائلته في صفوف الشهداء، وأن الاحتلال يحتجز جثمانه. لم يكن البوز قائداً ميدانياً فقط، بل كان محبوباً ومطارداً ومرعباً لجواسيس الاحتلال، فالمحكمة الثورية أعدمت الكثير منهم. كان رجلاً عادياً، وخاف الاحتلال من تحوّله إلى رمز، فأنكر جثمانه، ولم يعلن طريقة اغتياله.
باختصار: نحن نعيش انتفاضة ثالثة مكتملة الأركان تحتاج إلى قائد لـ«هيئة الأركان الشعبية العامة»


أثناء تشييع الشهداء الأربعة بعدما دهسهم مستوطن. اشتبكت الجماهير مع جيش الاحتلال في جباليا. إنها شرارة تجديد الثورة، ولتكن انتفاضة موسعة بعد ذلك. كان القائد الميداني الفعلي لذلك التحرك القيادي في حزب الشعب الفلسطيني زياد عاشور، وهو من ألقى البيان الأول في الثامن من كانون الثاني 1988. وبدأ البيان بـ«نداء، نداء، نداء»، وفيه توجيه واضح وصريح لأبناء الشعب الفلسطيني بالإضراب الشامل. وتوجه البيان إلى العمال أصحاب المحالّ والباصات وسيارات الأجرة للالتزام بالإضراب وإغلاق الطرقات. وكذلك للأطباء والصيادلة ليكونوا على أهبة الجاهزية. أما الخطاب الأهم فكان للمناضلين والفدائيين: «على المناضلين والإخوة أعضاء اللجان الشعبية ولجان الانتفاضة المنتشرة في مواقع العمل المختلفة، العمل على تقديم يد العون والمساعدة حسب الإمكانات المتوفرة لأهلنا وقطاعات شعبنا المختلفة، وبشكل خاص للأسر المحتاجة من أهلنا. وعلى الفرق الضاربة ومجموعات الانتفاضة تنفيذ برنامج العمل المتوافر بين أيديكم، ومعاً يداً بيد وبصوت عالٍ نردّد جميعاً: ليسقط الاحتلال.. ليسقط الاحتلال.. عاشت فلسطين حرة عربية". وخُتم البيان باسم "القوى الفلسطينية الوطنية" لتتحول بعد ذلك الى "القيادة الوطنية الموحدة".

ما شكلته الانتفاضة الأولى من مبادرة فردية وجماعية، جعل الانصهار الهرمي بين القيادة العليا والميدانية مثمراً على مستوى الاشتباك اليومي، وكذلك في التوجيه السياسي والأمني والاجتماعي. صحيح أن «انتفاضة الحجارة» كانت عفوية إلى حد ما، لكن مأسسة العمل وبناء الهيكلية التنظيمية أعطيا الزخم المستمر. وهذا انطبق تماماً على الانتفاضة الثانية عام 2000. وعلى عكس ما يتخيل البعض، فالحركات الشعبية، وإن كانت بدايتها من دون قيادة، تحتاج إلى قيادة لتواصل وهجها.
فلولا قرار ياسر عرفات في الانتفاضتين لما حصلتا، ونظرية أن «الشعب أكبر من قيادته» كانت «مزحة عرفاتية لا أكثر، والدليل على ذلك أن «انتفاضة القدس» منذ أكثر من سبعة أعوام لم تأخذ لبوس الانتفاضة الشاملة المزلزلة، لأنها لم تملك قراراً من القائد الأعلى.
حالياً، نحن أمام فرصة لاندلاع انتفاضة كبرى في فلسطين. بدأت الخلايا العمل في السر والعلن. ويدرك الاحتلال ذلك، وعليه، يحاول إجهاض ذلك عبر الاقتحامات والاعتقال والاغتيال. أما شكل هذه الانتفاضة الثالثة فسيكون دمجاً عظيماً بين المقاومة السلمية والمسلحة، وربما تتطور إلى حرب شاملة: شعب مقابل شعب. بوادر ذلك يمكن رؤيتها في كل فلسطين، وليس في الضفة فقط. ويمكن القول هنا، إن صوت أبو جهاد الوزير يُسمع صداه في الرملة حيث ستكون الملحمة، وكذلك في رام الله. أما نداء زياد عاشور، فلبّاه حينها ناصر البوز في حي الياسمينة، وصداه موجود في «عرين الأسود» في المكان نفسه. وما تحتاج إليه المرحلة هو البيان الأول، وتنظيم اللجان الشعبية المناط بها إعلان الإضراب وتوجيه الشعب بالطرق المناسبة، وهذا ما طالب به القائد أبو الرعد خازم. فأصبح ترتيب العمل الثوري وتنظيمه ضرورة لتوحيد الطاقات وتوجيهها. باختصار: نحن نعيش انتفاضة ثالثة مكتملة الأركان، وتحتاج إلى قائد لـ«هيئة الأركان الشعبية العامة».