رفض الفلسطينيون قرار التقسيم الصادر قبل النكبة بأشهر قليلة. صحيح أن ذلك لأسباب مبدئية في المقام الأول، لكن يبدو أن قرار الأمم المتحدة كان بتلك الصيغة، ليرفضه الفلسطينيون وليكون ما كان بعد ذلك. يعطي القرار الدولي 181 منحة دولية بإقامة دولة يهودية، وهذا أخطر ما في القرار. ربما لو حمل القرار بنداً يفيد بدولة ديموقراطية واحدة، أو دولة ليست بمسمى طائفي واضح، مع منح المقدسات للدولة العربية، لأتاح ذلك مجال التفكير. وبما أن قرار قيام دولة يهودية فوق 51% من 27 ألف كلم²، ونيل اليهود أفضل الأراضي من ناحية التضاريس الجغرافية والأهمية الاقتصادية والسياسية، يعني تلقائياً قتل وطرد الفلسطينيين من الدولة اليهودية الغنية إلى الدولة العربية الفقيرة. ويتزامن تهجير الفلسطينيين مع هجرة اليهود من كل كوكب الأرض إلى الأرض المحتلة.سبق قرار إقامة الدولة اليهودية تحت مظلة التقسيم، بسبعة أشهر، إعلان بريطانيا تخلّيها عن احتلالها لفلسطين، وإعادة المسألة إلى الأمم المتحدة. وعليه ألّفت المؤسسة الدولية الوليدة حديثاً «لجنة فلسطين التابعة للأمم المتحدة» (UNSCOP) التي شملت مندوبين عن 11 دولة، وحددت مهامها كالآتي: «سيكون للجنة الخاصة أوسع السلطات في التأكد من الحقائق وتسجيلها. وفي تحرّي جميع المسائل والقضايا المتعلقة بقضية فلسطين [...] على اللجنة الخاصة القيام بالتحقيقات في فلسطين، وحيث ترى أن ذلك قد يكون مفيداً، وتتلقى الشهادات الخطية والشفهية من السلطة المنتدبة، وممثلي سكان فلسطين، ومن الحكومات والمنظمات والأفراد، وتدرسها، كما ترى ذلك ضرورياً، وكما تعتبره في كل حالة»، على الرغم من هذه المهام، لم تلحظ اللجنة أهم بنود الشرعية الدولية، وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها. وناقشت مشروعي قرار: الأول يقضي بدولة، باستقلال فلسطين وقيام دولة واحدة تشمل كل سكانها بغض النظر عن العرق والدين، أمّا الثاني فكان قرار التقسيم.
لم يحصل مشروع قرار التقسيم على الغالبية، وكاد أن يسقط لولا تدخل الرئيس الأميركي هاري ترومن بالضغط على الدول لتبديل موقفها. وعند تأكيد إصدار القرار، قررت بريطانيا في 13 تشرين الثاني 1947، أنها ستنسحب من فلسطين في 15 أيار 1948، وكان ذاك موعد النكبة وقيام دولة إسرائيل. ويمكن تحديد شهر تشرين الثاني 1947، أنه ميعاد السطوة الأميركية وانتقال الحركة الصهيونية من الرعاية البريطانية إلى الأميركية بصورة واضحة حتى يومنا هذا.
لم يستطع الفلسطينيون إسقاط قرار التقسيم، كما فعلوا في خلال الثورة الكبرى (1936 – 1936). فقرار 181 كان بريطانياً في بادئ الأمر وذلك عام 1937، حيث أصدرت الحكومة البريطانية قراراً بتشكيل «اللجنة الملكية لفلسطين» وترأسها عضو المجلس الخاص ووزير الدولة لشؤون الهند إيرل بيل، فسُميت باسمه لاحقاً. تضمن تقرير اللجنة النهائي اقتراحاً بإنشاء ثلاثة أقاليم: الأول يضم القدس والجليل وبيت لحم، ومروراً إلى يافا عند البحر المتوسط تحت السلطة البريطانية. الثاني يضم السواحل الغربية وهو الجزء الأكبر والأهم، ويكون دولة يهودية. أمّا ما تبقى من الجغرافيا الفلسطينية فيتصل بالأردن ويكونان دولة عربية. وتمكنت الثورة الفلسطينية من إسقاط المقترح في الميدان، فأجّلت بريطانيا تقسيم فلسطين 10 أعوام، وفي خلال هذه الأعوام، فرغت فلسطين من قيادتها وحلّت «الهيئة العربية العليا» ونفت المفتي أمين الحسيني، واغتالت معظم قادة الثورة. واستغلت بريطانيا الأوضاع الدولية ولا سيما التوتر مع ألمانيا لتصدر «الكتاب الأبيض» في أيار 1939. وهذا الكتاب وثيقة تقرر اتساع «الوطن اليهودي» من دون ضوابط، ما يعني «الحكم بالقوة» والعمل على هجرة اليهود إلى فلسطين.
إذا نظرنا إلى تاريخنا نجد أن أجدادنا لم يتحدّثوا عن دولة في غزة ودول منفصلة في الضفة. أراد أجدادنا وطناً واحداً


بعد إصدار قرار التقسيم، صعّدت العصابات الصهيونية عملياتها العسكرية. وبدأت عملية الطرد الجماعي من القرى والمدن وذلك بدعم بريطاني واضح. ومع ذلك قاوم الشعب الفلسطيني ببسالة وإقدام لتكرار التجربة وإسقاط مشروع تقسيم البلاد. وكانت الكفة متكافئة إلى حد ما من ناحية العمليات المضادة والاشتباكات ضد العصابات، على الرغم من تدريب العصابات وسلاحها المتطور. فانعكست قوة الفلسطينيين الميدانية على الميدان السياسي، فاضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع اللفظي عن قرار التقسيم. وذلك على لسان ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة السيناتور وارن أوستن في 19 آذار 1948. وقال إن حكومة بلاده «لم تعد متمسكة بالقرار 181، وتدعو إلى وضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة المؤقتة». وبالفعل وافقت الصين وبريطانيا وفرنسا على المقترح. لكن واشنطن عادت وغيّرت موقفها، كالعادة. وهنا تظهر أهمية «اللوبي الصهيوني» وتأثيره في الولايات المتحدة منذ ذاك الوقت. ومن المؤسف حينها أن الموقف العربي كان متذبذباً غير واضح، كالعادة أيضاً.
مما لا شك أن الدعم الغربي لتشييد قاعدة عسكرية متقدمة، وجدار بشري بين المشرق والمغرب العربيين، كان هدفاً تحقق بمظلة يعتبرونها شرعية القوي في الأمم المتحدة، لكن المقاومة الفلسطينية استمرت على الرغم من كل الضربات. فالمقاومة كانت قراراً وليس خياراً.
وقال القائد عبد القادر الحسيني، قبل استشهاده في معركة القسطل في خلال معارك النكبة، أثناء اجتماع لقادة «جيش الجهاد المقدس»، إن «غالبية دول العالم موافقة على قرار التقسيم، ومعظم الدول العربية أيضاً توافق سراً أو علناً. ولذا قد ينجح هذا القرار، ومع إدراكنا لذلك فإن المقاومة تبقى ضرورية وهي الوسيلة للحفاظ على حقوقنا في وطننا، والفارق كبير جداً بين أن يفرض علينا قرار التقسيم بالقوة وبين أن نقبل به باختيارنا، وعلى أية حال علينا أن نستميت في المقاومة، وإذا كان لهذا القرار أن يمر فلن يمر إلا على أجسادنا». موقف تاريخي فيه العبرة والموقف، وهذا ما حصل فعلاً.
واصل الأميركيون، بإداراتهم المختلفة وأجهزتهم المتعددة، دعم إسرائيل كدولة تريد أن تكون يهودية صافية، ويواصل الفلسطينيون مقاومتهم. ولعل الاحتلال أراد تقسيم الشعب الفلسطيني بعدما احتل الأرض. والخطوة تكمن في أننا إذا نظرنا إلى تاريخنا نجد أن أجدادنا لم يتحدثوا عن دولة في غزة ودول منفصلة في الضفة. أراد أجدادنا وطناً واحداً، أمّا الأحفاد ففي متاهة التقسيم والتقاسم.