في 29 تشرين الأول من عام 2000، نشرت وكالة «اسوشييتد برس» صورة للمصور لوران ريبور. طفل يبلغ من العمر 14 سنة، يحمل حجراً يرميه على «عربة الرب» (الميركافا)، قرب مستوطنة نتسريم في قطاع غزة المحتل. على بعد 5 أمتار من الدبابة، وقف فارس عودة، لم ترعبه فوهة مدفعية الدبابة المصوبة تجاهه، ولم تخفه الرشاشات الآلية الموجودة على برجها. الصورة تجسيدٌ للرواية التوراتية عن مواجهة داود لجالوت، وقتله بحجر، لكن هنا داود فلسطيني وجالوت إسرائيلي.بعد انتشار الصورة بيومين، اغتالت إسرائيل فارس عودة بينما كان يواجه دبابة أخرى بحجر. أطلقت الرشاشات الآلية النار عليه، أصابته طلقة في رقبته، تُرك على الأرض، ومُنعت سيارات الإسعاف من الاقتراب. لم تتحمّل إسرائيل طفلاً فلسطينياً واجه فخر صناعتها العسكرية، وما عكسه على الوعي الجمعي للفلسطينيين. الصورة التي نشرت حول العالم، جسّدت أن إسرائيل واقعاً أوهن من بيت العنكبوت.

باغتياله، التحق فارس عودة بطفل آخر قتله العدو الإسرائيلي، قبله بأيام، طفل هزّ مقتله العالم، على مرأى الصحافيين، هو محمد الدرة، الذي قتل بإطلاق جنود العدو النار تجاهه وتجاه والده في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة في 30 أيلول. «مات الولد»، كلمتان صرخ بهما أحد الموجودين حينذاك، لحظة إصابة رصاصة إسرائيلية قلب الدرة. هاتان الكلمتان لا تزالان موشومتان في عقول من عايش تلك اللحظة.
مشهد الدرة، وهو يخبئ وجهه بيديه الصغيرتين ورأسه على حضن والده، وثقها المصوران، الفلسطيني طلال أبو رحمة، ومصور قناة «فرانس 2» الفرنسي شارل إندورلان. تحوّلت صورة محمد الدرة إلى أيقونة انتفاضة الأقصى. روّج لها الفلسطينيون والعرب بشكل كبير لإظهار ما يتعرّضون له من عدوان ومظلومية. واستغلتها السلطة الفلسطينية أيضاً لطلب قوات أممية لحماية الشعب الفلسطيني من المجازر التي يرتكبها الإسرائيلي. الحرص على نشر الصورة سببه العقلية التي ورثناها جميعاً من أهلنا، عقلية النكبة والنكسة، عقلية الضحية، عقلية أننا بحاجة إلى من يحمينا، وبحاجة لمن يساعدنا، وبحاجة لمن يعطف علينا - عقلية المهزوم والضعيف.
قد يقول البعض إن نشر رواية المظلومية الفلسطينية، وأننا الضحية، هو أمر جيد؛ فقد يعطف علينا أحد، وتتعاطف معنا دولة ما، ومن الممكن استثمار هذا العطف في تحقيق مكسب ما على الصعيد الدولي. لكن، هذا العطف وليد لحظة وصورة وحدث، ينتهي بانتهائه، أو قد يقع حدث ما، في مكان ما، يحوّل هذا التعاطف إلى شعب آخر.
تعلّم اليهود الدرس، وهم أرباب من استعطف العالم، ولعبوا دور الضحية، بخاصة بعدما ارتكب بحقهم وحقنا خلال الحرب العالمية الثانية، لكنهم كانوا «أشطر» في الدعاية وفي إظهار ما تعرضوا له. كفلسطينيين، ومنذ نكبة 1948، تصرّفنا كضحية، خلال الثورة من العام 1970 وحتى عام 1993 تصرّفنا أيضاً كضحية، نواجه آلة قتل وموت ودولة نووية، وتأثير عملياتنا الفدائية هو لا شيء مقارنة بآلة الموت الإسرائيلية. على مدى 74 عاماً، لعبنا دور الضحية، والحق يقال بأننا كنا فاشلين فيه، ولم نستفد منه بشيء. الدول الكبرى لا تنظر إلينا كأننا مسألة إنسانية يجب حلّها إنما ملف أمني يجب إيجاد حل له. السؤال هو: ما الاستفادة التي حصلناها بلعب دور الضحية، تأسيس سلطة فلسطينية هي أشبه ببلدية؟ دولة فلسطينية غير معترف بها في الأمم المتحدة؟ في يومنا هذا ما الفائدة من لعب دور الضحية؟ هل نجحنا كالإسرائيليين بالاستفادة من لعب هذا الدور؟ هل وقف العالم معنا؟
اليوم، هناك جزء من الشعب الفلسطيني، رافض لسياسة الضحية، وهم «الجيل الفلسطيني الجديد»


قد لا يعجب هذا الكلام كثيرين؛ إذا قررنا لعب دور الضحية فعلينا الاستفادة من تصرف الإسرائيليين في الفترة التي سبقت تأسيس كيانهم (للراغبين في الاستمرار بلعب دور الضحية، الاستفادة مثلاً من نظريات زئيف جابوتينسكي ومن مذكرات «الآباء المؤسسين» لكيان العدو، ونظريات ثيودور هرتزل، وخلق نموذج خاص بنا، على مقاسنا الفلسطيني وليس العربي، لأن أغلب الأنظمة العربية حالياً في كوكب إسرائيلي خاص بهم). ونحن نملك اليوم بعض المقومات التي كانوا يملكونها حينذاك؛ المجازر التي ارتكبت بحقنا شبيهة بتلك التي ارتكبها النظام النازي باليهود، الحجة التي أدت إلى وقوع «ليلة الزجاج المحطم» (قال النازيون إنها رد فعل على اغتيال سفير ألمانيا في باريس) شبيهة بما فعله الإسرائيليون عندما اجتاحوا بيروت في العام 1982، «منظمة التحرير الفلسطينية» شبيهة بـ«الوكالة اليهودية»، إلا أن الفارق أنهم كانوا أصدق في مسعاهم بتأسيس دولتهم من قيادات منظمة التحرير الموجودة حالياً.
أمّا من لا يريد لعب دور الضحية، عليه الاقتناع بأننا أقوياء، لم نعد ضعفاء، وإسرائيل هي التي بدأت حالة الانحدار، منذ العام 2000 عندما خرجت من لبنان من دون قيد أو شرط، ثم في 2005 عندما فكت الارتباط مع قطاع غزة، وعندما بدأت تستسلم رويداً رويداً لمعادلات المقاومة في لبنان وفصائل المقاومة في غزة.
واليوم، هناك جزء من الشعب الفلسطيني رافض لسياسة الضحية، وهم «الجيل الفلسطيني الجديد»، أمثال الشهداء إبراهيم النابلسي ووديع الحوح... في المقابل، تصر السلطة وأعوانها على لعب دور الضحية، الذي فشلت فيه، إذ لا أحد مهتم بهم. حالياً، الضحية التي تلقى رواجاً هم أصحاب العيون الزرقاء والشعر الأشقر الموجودون في أوكرانيا. أمّا أمثال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، والطفل ريان سليمان الذي توقف قلبه خوفاً من جنود الاحتلال، فهم منسيون ولا أحد يتذكرهم.
علينا الخروج من عقلية النكسة والنكبة، التي عمل الجميع على ترسيخها، حتى حنظلة، شخصية الشهيد ناجي العلي الكاريكاتورية، ورثت هذه العقلية، فهو في أغلب رسومات العلي مجرد شاهد ومشاهد للمجازر، ولا تجده يتحرّك إلا في بعض الرسومات. نحن في زمن فارس عودة لا زمن محمد درة. الاثنان شهيدان، قتلا على يد العدو نفسه، لكن الأول مات وهو يواجه دبابة والثاني قتل وهو في حضن والده. علينا اليوم، وبعدما أكد المجتمع الإسرائيلي بعد الانتخابات الأخيرة أنه يتجه إلى اليمين الكاهاني، أن نكون كلنا فارس عودة. زمن محمد الدرة انتهى.