قبل أن أكتب هذا المقال، اطّلعت على كتاب «مئة عام على تصريح بلفور، الثابت والمتحول في المشروع الكولونيالي إزاء فلسطين» (سحر الهنيدي، إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت 2019). وخلال تجوال ناظريّ في فهرس الكتاب، لفتني عنوان «تصريح بلفور في الأرشيف البريطاني 1923، إعادة تقويم».فوجئت، خلال قراءة هذه الدراسة، بأن الأرشيف البريطاني الرسمي صمت عن الكيفية والأسباب التي شكّلت الخلفية الحقيقية لنشوء تصريح بلفور وصياغته في وثيقة، حتى إن الباحثة تذكر أن آرثر بلفور، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، أكّد نفسه، عندما سُئل عام 1922 عن المسألة، أنه لا يتذكّر شيئاً! لتتكفّل تفسيرَ ذلك شخصياتٌ بريطانية صهيونية في تقارير ذكرت فيها الباحثة أن السبب هو «الضغوط العسكرية القاسية التي واجهتها بريطانيا في الوقت الذي تم فيه صوغ التصريح، والدَّين المتوجّب عليها للصهيونيين جراء مساعدتهم وقت الحاجة»، في إشارة إلى الخدمة التي قدّمتها الصهيونية لإقناع الولايات المتحدة بالانخراط في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، مقابل صك بلفور.
وتطرح الباحثة سؤالاً آخر: لماذا استمرّت السياسةُ المؤيّدة للصهيونية على الرغم من جميع محاولات العودة عنها؟
استدلّت الكاتبة بالعديد من الدلائل، عبر التقارير التي تعود إلى تلك الحقبة والتي تظهر أن الأسس التي ترتكز عليها السياسة البريطانية تجاه هذا الوعد كانت «هشة»، بل حتى، أثيرت نقاشات عدة حول جدوى الاستمرار في هذه السياسة بالنظر إلى ما آلت إليه أمور الصراع بين الفلسطينيين والمشروع الصهيوني في فلسطين، والظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني. ففي عام 1923 قدّمت لجنة مجلس الوزراء المعنيّة بفلسطين تقريرَها إلى المجلس، أقرّت فيه بأن «الوعد كان غير ضروري وغير حكيم... وأن مشكلاتنا اللاحقة انبثقت في الأساس من تبنيه...»، وخلصت إلى أن تحقيق هذا الوعد يقتضي منها «أن تضحي بالكثير على صعيد انسجامها مع نفسها واحترامها لذاتها، إن لم يكن شرفها». حتى إن الأمر أثير في أروقة عصبة الأمم أيضاً، عبر تقرير أعدّته لجنة الانتدابات الدائمة لتقديمه إلى مجلس عصبة الأمم في 6 تشرين الثاني عام 1924 قبيل صدور قرار الانتداب الذي تضمّن تحقيق وعد بلفور، حيث أشارت بوضوح إلى تعقيدات الوضع في فلسطين، لجهة إقامة وطن قومي لليهود، وتأثير ذلك على الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية، كما أشار التقرير إلى الجدل المثار حول الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
لكن من الذي رجّح كفة العدول عن هذه السياسة، حتى في أروقة عصبة الأمم؟ تبرز عدة أسماء، غير بلفور، كانت متحمّسة لتحقيق هذا الوعد، صهيونيةً حتى النخاع، كـ أورمسبي غور، وكيل وزير الدولة للمستعمرات، جون شاكبرغ، رئيس دائرة الشرق الأوسط في وزارة المستعمرات، الكولونيل ريتشارد مينرتسهاغن، كبير المسؤولين السياسيين في الإدارة العسكرية في سوريا وفلسطين (1918- 1920). لكن الاسم الأبرز كان د. حاييم وايزمن.

دور وايزمن
تذكر الباحثة التأثير المذهل لوايزمن، إذ كان بإمكانه أن يفتح معظم الأبواب في «وايت هول»، الشارع الذي يضم المؤسسات الحكومية، فتم التعامل معه على هذا الأساس؛ أنه الممثل الصهيوني الوحيد خلال الحرب العالمية الأولى، والذي كان مقبولاً في وقت واحد بصفته من أهل البلد، وشخصية حكومية في أوساط الحكومة البريطانية والمجتمع الراقي.
لقد استطاع وايزمن، عبر صلاته الوثيقة، أن يضغط على الساسة البريطانيين للدفع باتجاه تحقيق وعد بلفور وتذليل العقبات أمام تنفيذه، وهذا ما شهدت به أقوال الساسة البريطانيين لجهة قوة تأثيره التي وصلت إلى حد السحر، بحيث وصف السياسي البريطاني روبرت بوثبي تلك المرحلة بـ«مرحلة وايزمن». لكن من الصعب جداً الاعتقاد بأن هذا كان السبب الأوحد، ليبيّن، كما ذكرنا سابقاً، إدوين مونتاغو، السياسي البريطاني، أن وايزمن قدّم اليهود على أنهم «قوة باطنية يجب نيل رضاها، لأن في إمكان أموال اليهود في أميركا وتأثيرهم في القوى المناهضة للحرب في روسيا المساعدة في تحديد نتيجة الحرب»، بل إن تأثيره طال عصبة الأمم أيضاً.
لا يزال الخلاف بين الباحثين محتدماً حول الأسباب التي دفعت إلى تلاقي المصلحة الأوروبية والأميركية مع الصهيونية


والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، أين كان العرب في تلك اللحظة التاريخية؟ وأين الوعود التي قطعت للشريف حسين؟ ولماذا أطاحت بريطانيا بوعودها للعرب؟ لا يزال الخلاف بين الباحثين محتدماً حول الأسباب التي دفعت إلى تلاقي المصلحة الأوروبية والأميركية مع الصهيونية، وإن كان المفكر الفلسطيني رشيد الخالدي ينفي البعد الديني لوعد بلفور، لكن يبقى السؤال قائماً، إذا كانت بريطانيا في لحظة حرجة بحاجة إلى الولايات المتحدة، فلماذا مع انتهائها وانتصارها أصرّت على الاستمرار في الدفع باتجاه تحقيق إقامة دولة لليهود على حساب الفلسطينيين، وعلى حساب العرب، وبالرغم من حدة الصراع والمعارك؟ لماذا أيّدته الولايات المتحدة عبر الرئيس ويلسون وقد أطاح بـ«مبادئه التحررية». لا أجد إلا أن أميل إلى الرأي القائل، وإن تحدّث به مؤرخون يهود، أن الإيمان الديني لأصحاب القرار شكّل الرأي الحاسم في تأييد تحقيق هذا الوعد، ويكفي أن نقرأ تصريح بايدن: «أنا صهيوني، ولا يتعيّن على المرء أن يكون يهودياً ليكون صهيونياً»، ليوافق من سبقه إلى ذلك، وهو بلفور. ولعل ممّا يدلّل على ما جاء من طرح في هذه المادة، ما كتبه الأستاذ زياد منى في «الأخبار» بعنوان «الصهيونيّة المسيحيّة... هكذا أسهمت في احتلال فلسطين»، حول كتاب «تاريخ مختصر للصهيونية المسيحية» (2020) لدونالد أم. لويس، أن «التأريخ الصهيوني الراسخ قد هيمن عليه المؤرّخون الذين انزعجوا من الاقتراح القائل إن الدين، يهودياً أو مسيحياً، كان حاسماً على أي نحو في تأسيس كيان العدو الصهيوني الاستعماري الاستيطاني. لقد تغيّرت النظرة الخاطئة تلك، ذلك أن نتنياهو صرَّح مراراً وتكراراً بأن الدعم المسيحي الصهيوني كان حاسماً في تأسيس الكيان في عام 1948».
وتشير الباحثة هنيدة غانم، في مقالة «السلام القيامي: صفقة القرن أو الخراب الذي يَعِد بالازدهار» (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 122 ربيع 2020) إلى أن المسيحية الصهيونية تؤمن بأن «فلسطين هي الأرض الموعودة للشعب اليهودي، وأنه يجب أن يعود إليها ليقيم كياناً يهودياً فيها يمهد لعودة المسيح الثانية الذي سيؤسس مملكة الألف عام. وقد ساعد بشكل كبير وجود شخصيات محسوبة على المسيحية الصهيونية، في استصدار وعد بلفور، بما فيه دعم رئيس الحكومة البريطانية لويد جورج، ووزير الخارجية مارك سايكس، واللورد روبير سيسيل، والسير رونالد غراهام الذي أدى دوراً مهماً في صوغ تصريح بلفور الذي أُعلن رسمياً في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1917. وعبّر ناحوم سوكلوف في كتابه "تاريخ الصهيونية" الذي نشره في عام 1919، عن الدور الكبير الذي أدته الصهيونية المسيحية في دعم الصهيونية السياسية، ونجاحها في استصدار وعد بلفور».