اقتحم أكثر من خمسة آلاف مستوطن إسرائيلي المسجد الأقصى خلال الأسابيع الماضية التي كانت حافلة بالأعياد اليهودية، وفيديوهات النفخ بالبوق والسجود الملحمي. تُضاف هذه الاعتداءات على أحداث رمضان الفائت، ومسيرة الأعلام الإسرائيلية، من محاصرة المصلين في المسجد القبلي، واعتقال الشباب المقدسي بالجُملة. رغم أن هذه الأحداث غير مرحلية، إلا أنها تُجدّد، بين الحين والآخر، موجة التساؤل حول الدور الأردني تجاه المقدسات الدينية في القدس، وتثير حالة التهكم والسخرية على ما تمت تسميته مراراً بهاشتاغ «وصاية الموكيت» على منصة «تويتر».في محاولة لفهم مسؤوليات الدور الأردني، تجاه المقدسات الدينية، لمعرفة في ما يمكننا تحديد سقف توقعاتنا بشأنه بحيث يشمل ما هو أكثر من تغيير السجاد، تستعرض هذه المقالة تسلسلاً تاريخياً للدور الأردني، مروراً بالمحطات التي أسهمت في إضعافه، في سياق يشمل وجهة النظر الأردنية بتفاعلاتها مع الأطراف الإسرائيلية والأميركية والفلسطينية على صعيديها الشعبي والرسمي.

كيف نشأ الدور الأردني في القدس؟
استجاب الشعب الفلسطيني لضرورة الإشراف على المسجد الأقصى، خلال الانتداب البريطاني، من خلال تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى عام 1922، بعد جهود المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث، في فترة كان فيها وضع المسجد الأقصى متهالكاً. انتخب الحاج أمين الحسيني أميناً للمجلس، وقاد إعمار المسجد الأقصى لتحسين حالته العمرانية، ولاحقاً الاستجابة لتبعات الزلزال الكبير.
يسمّى هذا الإعمار بإعمار المجلس الإسلامي الأعلى، وتعتبره الأدبيات الأردنية الرسمية «الإعمار الهاشمي الأول»، وذلك بعد زيارة الحسيني مع وفد مقدسي للشريف حسين عام 1924 في الحجاز، بحثاً عن الدعم المالي لإعادة تركيب قبة الصخرة وعمارة المسجد القبلي. فاستجاب الشريف حسين لطلبه، وقام بحملة تبرعات بالحج، فقدم مبلغ 50 ألف ليرة ذهبية لإعادة إعمار المسجد الأقصى ومساجد أخرى في فلسطين. وحرص الحسيني على جلب جثمان الشريف ودفنه في الأقصى، بعد نفيه ووفاته في قبرص، رداً لجميله في جمع تبرعات الإعمار التي شكلت بداية الدور الأردني في القدس.
خمد دور المجلس الإسلامي الأعلى تدريجاً منذ عام 1937، ومع النكبة لم يعد له دور يذكر، , وخلالها ساندت مدفعية الجيش الأردني المقاومين في معركتهم للسيطرة على جبل المكبر في الحرب، وبرز دور القوات الأردنية في معارك اللطرون وباب الواد؛ وفي فترة الهدنة الأولى، تمكنت القوات الصهيونية من فك الحصار عن القدس وتزويدها بالمؤن والأسلحة عن طريق فتح طريق بديلة سُمّيت بـ«طريق بورما» تمر بباب الواد واللطرون اللتين كانتا تحت سيطرة الجيش الأردني. قضى اتفاق الهدنة الذي وقعه الأردن، إضافة إلى مصر وسورية ولبنان، ببقاء القوات الأردنية في معظم مواقعها، ولا سيما شرق القدس مقابل انسحابها من المواقع الأخرى.
بعد النكبة، انعقد المؤتمر الفلسطيني في عمان في 1 تشرين الأول 1948 برئاسة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وهذا المؤتمر مهد لعقد مؤتمر أريحا في 1 كانون الأول 1948 بحضور أعيان فلسطين وزعمائها ووجهائها، وتقرر فيه القبول بالوحدة بين الضفتين، ومبايعة الملك عبدالله الأول، الذي اغتيل لاحقاً في القدس، فباشرت السلطات الأردنية باتخاذ الإجراءات الدستورية الكفيلة بتحقيق الوحدة بين الضفتين الشرقية والغربية، في قرار صدر في 12 نيسان 1950 بمصادقة جامعة الدول العربية رغم معارضات مصرية وسورية.
انتقلت علاقة الأردن بالقدس، بموجب الوحدة، من الدعم المالي والرعاية، ليصبح الأردن صاحب السيادة. فأديرت القدس باعتبارها جزءاً من الأراضي الأردنية، وأجريت الانتخابات، وانتخب مجلس النواب عن الضفة الغربية والأردن.
ومع تولي الملك الحسين بن طلال، مسؤوليته في المملكة الأردنية، في أيار 1953، شكل الملك عام 1954 لجنة بموجب قانون خاص لإعمار المقدسات الإسلامية في الحرم القدسي الشريف، تحت الرعاية الهاشمية، وفي عامي 1956 و 1959، بدأ الترميم الثاني الذي موله الأردن، إلى جانب دعم قدمته بعض الدول الإسلامية الأخرى، واستمرت العملية حتى آب 1964.

النكسة وما بعدها من التطبيع
شكلت النكسة محطة فارقة مهدت لإضعاف الدور الأردني في القدس، حيث وقعت المدينة بيد الاحتلال، وأتاحت له فرض قوانينه على الجزء الشرقي منه، على الرغم من قرار مجلس الأمن رقم 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلتها بعد حرب 1967. حاول الاحتلال الإسرائيلي بعد النكسة، ضم الأوقاف الإسلامية إلى سيطرة وزارة الأديان الإسرائيلية، لكن اعتصاماً للهيئة الإسلامية العليا حال دون ذلك.
وكانت الهيئة قد تأسست، بقرار وشرعية من الجماهير الفلسطينية، في حرب النكسة برئاسة الشيخ عبد الحميد السائح، حتى «تتولى جميع صلاحيات مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في ظل قرارات الحكومة الإسرائيلية»، بحسب بيانها التأسيسي في 24 تموز 1967. ورث الأردن هذه الصلاحيات والمسؤوليات عن الهيئة، بتعيين السائح في منصب وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الحكومة الأردنية مرتين على خلفية إبعاد سلطات الاحتلال له في العام نفسه.
تولت وزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية الأردنية، التي تأسست عام 1968، مسؤولية مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس الذي يقوم مجلس الوزراء الأردني بتعيين أعضائه.
استثنيت القدس، في قرار الأردن فك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988 بالاتفاق مع الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، وذلك للحيلولة دون حدوث فراغ في حمايتها أثناء المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وأسهمت الهيئة الإسلامية العليا في منع الاحتلال من تغيير هوية القدس الدينية، ووضعها كمدينة محتلة خلال النكسة، لكن ذلك لم يمنع ظهور الخلافات بين المنظمة والحكومة الأردنية.
يتقلص الدور الأردني تجاه المقدسات الدينية في القدس أو يزداد بحسب الظروف السياسية والقوى الفاعلة فيها


فعندما أنشئت وزارة الأوقاف التابعة للسلطة الفلسطينية عام 1994، واستلمها الوزير حسن طهبوب، بعد وفاة مفتي القدس سليمان الجعبري، اشتد التنافس وعينت كل جهة مفتياً. وذلك نظراً لأن الاحتلال استفرد بالقدس كصاحب للسيادة، سواء في إعلان المبادئ عام 1993، إذ تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية طرفاً مفاوضاً، في ما يتعلق بالقضايا التي تؤثر في السكان الفلسطينيين، أو في إعلان واشنطن الصادر عن رابين والملك حسين، حيث يكون الأردن طرفاً مفاوضاً في ما يتعلق بأماكن العبادة الإسلامية فقط.
أدت النكسة والسيطرة الإسرائيلية، والسماح للمستوطنين بدخول المسجد الأقصى، إلى حريق تعرض له المسجد الأقصى يوم 21 آب 1969، بعد اقتحام يهودي متعصب للمسجد وإضرام الحريق فيه، فأدى ذلك إلى تدمير أماكن واسعة من المسجد المبارك، ومن بين الأجزاء المهمة التي نال منها الحريق، منبر صلاح الدين الذي أحضره صلاح الدين الأيوبي من حلب. إثر ذلك، أصدر الملك الحسين بن طلال، قراراً بضرورة إعادة إعمار المسجد الأقصى، الذي أعيد فعلاً إلى حاله السابقة قبل الحريق، فاستبدلت ألواح الألمنيوم القديمة للقبة بألواح نحاسية مذهبة. واستمرت عمليات الإعمار الهاشميّ الثالث إلى 1994، العام الذي أنهى فيه الأردن عداءه مع الاحتلال بتوقيع معاهدة وادي عربة حيث تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص بالمملكة بحسب نص المادة التاسعة -لا تذكر المعاهدة أو أي من ملاحقها تعريفاً للاحترام أو طبيعة الدور الحالي ومسؤولياته- لكن الفرق الذي أحدثته هو بدء حقبة تصريحات لوزارة الخارجية الأردنية، تتبنى فيها الإدانة كرد فعل على الانتهاكات الإسرائيلية في القدس، وتطالب بـ: «قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل بأمن وسلام».

لِمن السيادة اليوم؟
يشكل الدور الأردني تجاه المقدسات، والمكفول بموجب القانون الدولي الإنساني، أحد الملفات التي تجعل الأردن مرتبطاً بقضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية. إن فقدان هذا الدور، يعني خسارة الكثير من الامتيازات في المنطقة بالنسبة لدولة، تشكل ثالث أكبر مستقبل للمساعدات الأميركية، خصوصاً في ظل توافر العروض العربية الأخرى. تطرقت الصحافة العبرية في مناسبات عدة للمحادثات بين السعودية ونتنياهو لإقامة وضع جديد يمنحها دوراً في القدس، ومكانة كقوة عظمى إسلامية تسيطر على مكة والمدينة، حتى لو كلفها ذلك التطبيع الرسمي.
يأتي هنا مفهوم سعي الأردن للحفاظ على «الوضع القائم» في ما يتعلق بالمقدسات الدينية، أي كما كان الوضع منذ الحكم العثماني وحتى عام 1967، وهو ما لم يتحقق بسبب سيادة الاحتلال التي طاولت التحكم بفتح الأبواب وإغلاقها، والموافقة على طلبات تعيين الحراس، وتأمين اقتحامات المستوطنين، وإصدار قرارات المحاكم التي تسمح باقتحامات المسجد الأقصى وإجراء الحفريات.
وفي محاولة لإعادة التأكيد على الوضع القائم، وقّع الملك عبدالله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس اتفاقية في عام 2013، لم تحمل أي أهمية من وجهة النظر الإسرائيلية، لأنها لا تشمل في المرتبة الأولى ذكر الاحتلال وانتهاكاته وسبل مواجهته في أي من البنود، بل كانت أول موضع يُختزل فيه الدور الأردني أو «الولاية الدينية»، التي كانت مستخدمة في الوثائق خلال عهد الملك الحسين، بـ«الوصاية الهاشمية».
بعد النكسة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها ليفي أشكول، تتقاسم إسرائيل الإدارة والتنظيم مع جهات أخرى، لكنها تملك السيادة السياسية على المدينة. وكذلك صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في أيار الماضي بأن «إسرائيل صاحبة السيادة على المدينة بغض النظر عن أي اعتبارات خارجية» بعد أيام قليلة من موافقة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي على طلب الأردن بزيادة عدد حراس الأوقاف.
دفعت السيطرة الإسرائيلية الفعلية على المسجد الأقصى إلى تهميش الدور الأردني في قرارات صدرت عن الأوقاف نفسها. مثلاً، أصدر مدير أوقاف القدس عزام الخطيب تعميماً داخلياً -تم تسريبه لاحقاً- في 2020 بمنع موظفي دائرة الأوقاف من نشر أي خبر يختص بالمسجد الأقصى، إلا بإذن خطي منه، خلال فترة شهدت أكبر اقتحامات واعتداءات في الأقصى، بدلاً من الدعوة للرباط والاعتكاف وشد الرحال.
في هبة باب الأسباط عام 2017، دفع المقدسيون مدير المسجد الأقصى عمر الكسواني، وغيره من المسؤولين لاتخاذ موقف متقدم، وحمّلوهم مسؤوليات. وفي هبة باب الرحمة عام 2019، واجهوا سعي الأجهزة الأمنية الفلسطينية للتهدئة حتى أعادوا فتح الباب وصلّوا في مصلاه المغلق منذ 16 عاماً.
في موقف آخر، صرح الكسواني بحصر الاعتكاف في الأقصى خلال العشر الأواخر من رمضان، بالتزامن مع تقييدات الاحتلال على الفلسطينيين ودعوات المستوطنين للاقتحامات وذبح القرابين في عيد الفصح اليهودي. أثار القرار حالة رفض شعبية واسعة ونظم المقدسيون اعتكافات يومية متجاهلين تبريرات الأوقاف، حتى تمكنوا من إسقاط القرار عملياً. هذه القوة الشعبية، التي هبت في ثورة البراق عام 1929، دفعت عصبة الأمم عام 1930 للموافقة على تشكيل لجنة دولية ثلاثية من غير المسلمين وغير اليهود، لدراسة موضوع حائط البراق، وبعد حضورها على الأرض، أصدرت تقريراً في كانون الأول 1930 جاء فيه «للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلّة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفاً بحسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير» وجاء أيضاً في التقرير «إن أدوات العبادة و (أو) غيرها التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط إما بالاستناد إلى أحكام هذا القرار أو بالاتفاق بين الفريقين لا يجوز في حال من الأحوال أن تعتبر أو أن يكون من شأنها إنشاء أي حق عيني لليهود في الحائط أو في الرصيف المجاور له».
يعتبر المسجد الأقصى اليوم في أفضل أوضاعه المعمارية، بسبب الدور الأردني في الحفاظ عليه وتطوير بناه التحتية على مراحل، لكن التحدي الآن ليس إعمار الأقصى وصيانته، بل محاولة الاحتلال الاستيلاء عليه. تمكّن المقدسيون من الدفع باتجاه رفع سقف الدور الأردني، لمنع أكبر قدر ممكن من سيطرة الاحتلال العسكرية والدينية والأمنية على المدينة، وقاموا في مرات عديدة بقيادة الميدان بأنفسهم.
في الختام، لا بد من القول إن الدور الأردني يتقلص تجاه المقدسات الدينية أو يزداد بحسب الظروف السياسية والقوى الفاعلة فيها. إثر النكسة، فقد الأردن القوة لكنه لم يفقد المشروعية، وإثر معاهدة التطبيع، ضيق الأردن مشروعيته. لكن من أجل عدم خسارة ما تبقى، يصبح الخيار الأفضل، هو مجابهة ممارسات الاحتلال واستعادة السيادة والمسؤولية، من خلال العمل إلى جانب المقدسيين والاستثمار في القاعدة الشعبية التي لا تعول على خطابات الإدانة أو الهدوء أو الموكيت في مواجهة المستوطن المتطرف والجندي المدجج بالسلاح.