انتفاضة الاستنزاف التي نشاهد أحداثها في السنوات الأخيرة، والتي تتصاعد يومياً في الضفة الغربية والقدس بالكم والنوع، تؤكد أن تراكم التجربة والوعي، يؤدي إلى نضال نتائجه حاسمة استراتيجياً.عام 1976 انطلقت شرارة أول انتفاضة فلسطينية، تحت شعار التمسك بالأرض والحفاظ عليها داخل المناطق الفلسطينية التي احتلت عام 1948، وامتدت أحداث يوم الأرض على مساحة فلسطين ليرتقي عدد من الشهداء، روت دماؤهم الأرض، ليزهر مكان القلق الذي أحدثته مجازر كفر قاسم ودير ياسين، كسراً للخوف وثقة بالنفس، بأن سياسة التهجير اندثرت، وعلى هذه الأرض شعب أصيل سيبقى في أرضه بنبضه.
عام 1982، وكأرض عربيّة سورية، أعلن سكان الجولان بداية انتفاضة إضراب «المنيّة ولا الهويّة» رافضين قرار الضم المشؤوم عام 1981، متشبثين بانتمائهم القومي والقطري لدولتهم الأم سوريا، لتنتهي بتحقيق انتصار تحت راية التمسك بالهوية والأرض، ومما لا شك فيه أن لهذه الانتفاضة التي وصفت بالعصيان المدني، أثر عميق على ذهنيّة الشارع الفلسطيني، وقيادته كتجربة نضاليّة تعزز وتراكم سبل النضال أمام عدو محتل، فالجولان المحتل متصل بعمقه الجغرافي مع الجليل والأراضي التي احتلت عام 1967.
عام 1987، اندلعت أحداث انتفاضة فلسطينيّة متأثرة بتجارب ما سبقها، لتعنون باسم «انتفاضة الحجارة»، فمزجت بين العصيان المدني والتمسك بالأرض، لترتقي إلى مستوى نضالي أعاد القضيّة الفلسطينيّة إلى مركزيتها لدى العرب والمسلمين وأحرار العالم.
عام 2000، انتفضت فلسطين بوجه الاستكبار العالمي والإرهاب الصهيوني، بعد اتضاح التضليل المسمى تسويات وسلام «دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل»، شملت هذه الانتفاضة فلسطين التاريخيّة، تحت اسم «انتفاضة الأقصى»، فراكمت في التجربة والوعي، فمزجت بين العصيان المدني في الجذر الفلسطيني، والاشتباك المسلح في الضفة وغزة، فطاولت العمليات الاستشهاديّة جيش الاحتلال في كل مكان، والمواجهة بالحجارة والعصي في أماكن اشتباك أخرى، لتعزز معركة الوعي مقابل كيّ الوعي، وتثبت ذهنيّة، أن المقاومة هي الحل لاسترداد الأرض والحقوق، وبخاصة أنها تزامنت مع انسحاب جيش الاحتلال، مهزوماً ذليلاً من الجنوب اللبناني، بفعل المقاومة.
انتهى اتفاق أوسلو، بأحداث انتفاضة الأقصى، فالعدو الصهيوني لم يوقع أوسلو لينفذه، بل كاستثمار وقت، ومصيدة للإيقاع بمنظمة التحرير في فخ التفاوض المباشر، ونيل اعتراف بشرعيّة الكيان على أراضي 48، ومن يراقب سلوك الاحتلال إبان انتفاضة الأقصى، ويحلل هدف جيشه من تدمير المؤسسات الحكومية للسلطة، والبنى التحتية، حتى أن جنازير دباباته كانت تستهدف الأرصفة والأعمدة والشجر، فإن المراقب سيصل إلى أن الاحتلال هدف إلى القضاء على أي إنجاز ولو متواضع، يتكلم عنه الشارع. ليضع العدو قادة منظمة التحرير كقيادة سلطة في حال لا حول لهم فيه ولا قوة، فيعتبرها الشارع مسؤولة مباشرة عن نتائج الواقع آنذاك، وبهذا يضع إسفيناً لشرخ أفقي بين القيادة والشارع، يتم استثماره لحياكة مخطط إعادة السيطرة على الضفة، «يهودا والسامرة» بمنطقهم، وجعل السلطة أداة حكم «كانتونات» متفرقة تندثر مع الزمن.
جاء تأكيد سبب وفاة الرئيس ياسر عرفات بالسم، ودور العدو الصهيوني في اغتياله، ليرتقي شهيداً في نظر الشعب الفلسطيني، لتسقط ورقة التفاوض من الذهنيّة الاستراتيجية للقيادة الفلسطينية. فقاتلُ الشهيد أبو عمار هدفُه القضاء على أي إمكانية للتوصل إلى توقيع على حل نهائي، ليستمر الرئيس محمود عباس بإدارة السلطة، بين أنياب دول الاستكبار ومشروع دولة الاحتلال الهادف لتصفية القضية الفلسطينية، فسقط الرهان، وضعف كل من راهن على تسويات هي في الحقيقة لا تعبّر عن آمال وحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ومستقبله.
لم تتوقف الهبّات الشعبيّة منذ ذلك الحين، بمواجهة جدار الفصل العنصري، أو ممارسات جيش الاحتلال، وبين حين وآخر كانت الهبّات الشعبيّة المقاومة تتصاعد وتخمد، تحقق هدفاً هنا وآخر هناك، وتفشل في مكان آخر. لكن أثر انتصار حزب الله في حرب تموز 2006، وإطلاق شعار «إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت»، شكل حافزاً عميقاً في ذهنيّة وآلية تفكير الشعب الفلسطيني، وعززه صمود ومواجهة المقاومة في غزة عام 2008، لتتراكم التجربة ويتجذر الوعي ضمن مفهوم أن الحق لا يؤخذ إلا بالقوة، وثمن الاستسلام أغلى بكثير من ثمن المقاومة.
هبة الشيخ جراح ومعركة «سيف القدس»، التي عبّرت بدقة عن تراكم التجربة واستخلاص العبر، حيث انتفضت فلسطين من جديد في الجذر الفلسطيني داخل المناطق المحتلة عام 1948، فكانت المواجهات عالية المستوى، وواضحة الهدف تحت راية الهويّة والمقاومة، فكان العلم الفلسطيني يزين المواجهات ويؤكد للعالم أن على هذه الأرض شعب أصلاني، لن يقبل أن يذوب في مؤسسات كيان غاصب، لتنسجم غزة بالمبادرة، وتدخل في تصعيد رادع بالصواريخ، تلبية لنداء بقية الأهل، وتتشابك الأيادي مع أهالي القدس ليتحقق انتصار تاريخي، ربما البعض لا يعيره اهتماماً، لكنه انتصار حقيقي راكم على التجارب الماضية.
جاءت معركة «وحدة الساحات»، وانتفاضة الاستنزاف الآن، لتكون حصيلة نضال لأكثر من نصف قرن، وقراءة المشهد هنا يجب أن ترتكز على الوعي بالأداء، التنظيم المستتر، الخطاب الوحدوي بين الفصائل، شراكة العمليات المقاومة، تعقيد وتقييد قدرة جيش الاحتلال بالدخول لمدن الاشتباك، التكامل بين الضفة وغزة في التصعيد إذا اقتضى الأمر، عزيمة وثبات القدس وأهلها، والقنبلة الموقوتة في الجذر الفلسطيني.
إنّ مظهر الهدوء داخل الجذر الفلسطيني، لا يعبّر عن الرخاء، بل عن الوعي والإدراك لأهمية دورهم، حيث باتوا يدركون بوعي متى يوظفون قوتهم لصالح القضية، فإنها معركة وجود ولن تحسم إلا بتراكم القدرات ومعرفة التوقيت الصحيح لممارسة دورهم.
لا يعني صمت مدن في الضفة أنها مستسلمة للأمر الواقع، بل واقع الحال يفرض التنسيق بالدور والأداء، فالشارع والفصائل باتوا لا يبحثون عن استعراض قوة، أو تذكير بقضيّة منسيّة، بل إن ذهنيّة المقاومة تبحث عن نتائج ميدانيّة وتعزز وعي الشارع. فالمعركة، للمتابع، لا تتخذ شكلاً يومياً لها، ولا مرهونة بالوقت، بل إنها معركة استنزاف، يحدد قاعدتها وشكلها وطريقتها وعملياتها، النضال تحت استراتيجية الصبر والضرب والمقاومة.
إن ما نشهده الآن في فلسطين، هو انتفاضة الوجود، ولن تتوقف بتسويات، لأنها غير مرهونة إلا لمن يقاوم بالميدان ويستشهد بقرار المواجهة، وهي لن تفشل، لأنها ليست معركة بل باتت نهج شعب يعبّر عن ذاته ويدافع عن حقه، وسيعبّر عنه بلا قرارات عليا، ولا أوامر فصائلية.
لكن، لتحقيق إنجازات، يجب الترفع عن السباق في تبني العمليات، والابتعاد عن ذهنيّة توجيه السهام داخلياً، فكل تجارب التسويات فشلت، وأهل القضية يفتحون الأبواب أمام الجميع للعودة لذهنيّة الانطلاقة، ذهنيّة تحرير فلسطين وعودة اللاجئين ورفع العلم الفلسطيني في القدس كعاصمة للدولة الفلسطينيّة المنشودة.
نحن في زمن المقاومة التي زرعت في الأرض أشجاراً شامخة، باتت جذورها كشجرة الزيتون مهما تكسرت أغصانها، أغصان أكثر قوة لتنتج بغزارة أكثر، إنها أغصان ذهنية المقاومة التي لا تموت، بل يستشهد رجالها من أجل أن تحيا القضية ويعيش الحق. إنها انتفاضة وجود دائمة، تحت راية الهوية والشرعية التاريخية.

* أسير محرر - الجولان